خيمت مرة أخرى الأجواء السلبية على العلاقات المصرية- الأمريكية بعد تسريبات عن اتجاه الولايات المتحدة لتخفيض أموال المعونة الاقتصادية لمصر بمزاعم عدم إحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية .
اللعب في ملف المعونة الاقتصادية والعسكرية يعود بالعلاقات المصرية- الأمريكية إلى ذهنية الخلاف في عهد الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما، بعد عودة دفء العلاقات بالتفاهم والصداقة اللذين جمعا الرئيس عبد الفتاح السيسي بالرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب. كما يكشف عن وجود أجنحة أخرى في الإدارة لا ترغب في تطوير العلاقات مع مصر، وإحراج الرئيس الأمريكي، أو ربما محاولة جديدة للضغط على الموقف المصري الصلب تجاه قطر، والإخوان، ومنظمات حقوق الإنسان الرافضة للقانون المصري.
إحراج الرئيس الأمريكي قد يعرض مشروعاته في الشرق الأوسط للخطر، سواء مشروعه للسلام الذي اصطلح على تسميته بـ "صفقة القرن"، أو التحالف الذي دشنه في الرياض لمكافحة الإرهاب. كما أن التدخل في الشئون الداخلية لمصر يتناقض كلية مع تعهده بتوقف الولايات المتحدة عن ذلك، وهو ما صنع تمايزاً بينه وبين من سبقه، وهو ما شجع مصر ودولا أخرى في المنطقة على الترحيب بعودة الدور الأمريكي، وعبور فترة الجفاء والتوتر في العلاقات، وزاد من فرص نجاح مسارات تحقيق السلام، ومكافحة الإرهاب، وهو ما تحقق جزئياً بانهيار ما يعرف بـ "دولة داعش" في العراق وسوريا، وتوقف تمددها بعد إجراءات محاصرة قطر، الداعم الرئيسي لكل الحركات الإرهابية، وعلى رأسها جماعة الإخوان، فضلا عن تخفيف حدة التوتر في الأراضي الفلسطينية .
من المعروف أن ملف حقوق الإنسان من الملفات المحببة لدى نواب الشيوخ والكونجرس للضغط على الدول الأخرى، وفق أهواء اللوبيهات المختلفة في أروقة السياسة الأمريكية، وهو غطاء ناعم يمررون من خلاله تهديداتهم السياسية، ويسوغون به تدخلهم في الشئون الداخلية للدول الأخرى، متناسين تماماً أن بلادهم لديها سجل أسود في انتهاكات حقوق الإنسان بحسب المعايير الدولية بدليل تجذر التمييز العنصري، والتشدد في معاملة اللاجئين والمهاجرين، والفض العنيف للتظاهرات .
لم تستفد مصر بالمساعدات الأمريكية بقدر استفادة الولايات المتحدة ذاتها، فما تقدمه ليس أموالا تحول لحساب مصر، وإنما منتجات أمريكية لتشجيع مصر على استمرار السلام بينها وبين إسرائيل. ومع الخلاف بين مصر والولايات المتحدة بسبب رفض غزو العراق، وظهور ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، واعتماد الإدارات السابقة للولايات المتحدة على النشطاء والمنظمات الحقوقية لتقويض دول المنطقة، اندفعت الولايات المتحدة للتلاعب بالمعونة، واقتطاع جزء كبير منها لتمويل أنشطة حقوقية، رغم أنف الحكومة المصرية، التي رفضت ذلك التدخل السافر في شئونها الداخلية، وهو ما نتج عنه في النهاية فتح ملف التمويل الأجنبي، والكشف عن أدواره المشبوهة في التأثير فى السياسة المصرية، وخدمة جماعة الإخوان الإرهابية.
تتنافى عودة تلك الممارسات، والتشكيك في المسار الديمقراطي المصري، أو في حق الدولة تنظيم العمل الأهلي بها، وفق رؤيتها، مع التغير المرجو في النظرة الأمريكية تجاه مصر، وعدم قدرة الإدارة الجديدة على استيعاب التغييرات الجذرية التي تمت في مصر، وآخرها إشادة تقرير الحريات الدينية، الصادر عن الخارجية الأمريكية، باهتمام الدولة المصرية بترسيخ قيم المواطنة، ونبذ العنف والتطرف، ومطالبة الرئيس السيسى بتجديد الخطاب الديني، وإقرار قانون بناء الكنائس، وترميم دور العبادة التي دمرتها الجماعة الإرهابية، ونزاهة العملية الانتخابية المصرية بشهادة المراقبين الدوليين. كل تلك الإجراءات كان ينتظر أن يسمع صداها في الولايات المتحدة وباقي دول العالم، لكن الواضح أن تلك الدول تتعالى على التجربة المصرية، أو خاضعة لتوهمات النشاء، والإعلام الإخوانى الممول قطريا، وتتعامل معه بحسبانه الحقيقة المطلقة.
كما أن التذرع بقانون الجمعيات الأهلية ينال من مصداقية الولايات المتحدة نفسها. فالكونجرس الأمريكى يراقب كل الأنشطة الأهلية وميزانيتها، ومصادر تمويلها، فكيف ينتقد قيام البرلمان المصري وأجهزة الدولة المعنية بالدور نفسه لتتأكد من مصادر التمويل، حتى لا تفاجأ بها تصب في مصلحة الجماعات المتطرفة أو الإرهابية. فالهواجس التي تشغل المشرّع الأمريكى هي نفسها التي تشغل المشرّع المصري، وكلاهما لديه هدف أسمى، هو حماية أمن وطنه.
لا يزال أمام الرئيس ترامب فرصة تاريخية في بناء جسر جديد من الثقة بين مصر والولايات المتحدة، إلا أن مثل هذه التوجهات تضعه في حرج ، وتشكك مصر وحلفاءها في جدية تخلى الولايات المتحدة عن سياسة التدخل في الشئون الداخلية. كما أن هذه التسريبات في مثل هذا التوقيت تخدم من يسعى لإفشال الدولة المصرية، وتنبه الجماعات المتطرفة إلى أن الولايات المتحدة عادت لسياستها القديمة التي أعطت أكبر خدمة لـ "داعش"، وجماعات التطرف للهجوم على الدول، وإسقاطها، وتعريض أمن العالم للخطر.
إصلاح ما أفسدته تسريبات تخفيض المعونة، وتعليق جزء منها، وتعامل مصر بنضج مع ما ورد فيها من استفزاز، يمكن البناء عليه في التخلي عن السياسة الأمريكية القديمة، والعودة إلى مسار الشراكة في الملفات المختلفة على أساس الندية والتكافؤ، لأن مصر ما بعد 30 يونيو لن تقبل التبعية والإملاء تحت أى ضغط .
رابط دائم: