تصاعدت ملامح السياسة التوسعية لأنقرة في شمال سوريا منذ العام الماضي، مع دخول قوات تركية (تسمى درع الفرات)، معززة بالدبابات وبغطاء جوي من الطائرات التركية ودول التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة إلى مدينة جرابلس السورية الحدودية في 24 أغسطس 2016، آخر بوابة حدودية بين سوريا وتركيا، والتي كانت تحت سيطرة "داعش".
وأخذ ذلك النهج التركي تصاعدا في يوليو 2017، مع السيطرة على منطقة الباب، وأعزاز، وقريتى جبرين والراي، وبعض المناطق في ريف حلب الشمالي، حتى إن عدد قتلى الجيش التركي بلغ 70 قتيلا، منذ بدء هجوم جرابلس وحتى فبراير 2017. ويزداد مأزق السياسة التركية، في ظل تقدم قوات سوريا الديمقراطية على العديد من المناطق في الشمال السوري، مما يضع أنقرة أمام ضغوط تصاعد المشكلة الكردية.
توتر عفرين
وعلى الرغم من إعلان رئيس الوزراء التركي، على بن يلدريم، في مارس 2017 عن انتهاء عملية درع الفرات في شمال سوريا، فإنه لم يستبعد شن حملات جديدة، في ضوء تصريح للرئيس، رجب طيب أردوغان في يوليو 2017، بالقول إن تركيا جاهزة للقيام بعملية عسكرية جديدة واسعة النطاق في شمال سوريا، وذلك على ما يبدو لضم منبج والرقة إلى مناطق نفوذها لمنع قيام دولة كردية.
يؤكد ذلك، أيضا، ما قاله نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان قورتولموش، لرويترز بأن الاستعدادات العسكرية التركية في شمال غرب سوريا هى إجراءات مشروعة ضد أي تهديد من القوات الكردية في منطقة عفرين، وأن تركيا سترد على أي تحرك عدواني، معتبرا أن ذلك " ليس إعلاناً للحرب. نحن نقوم باستعدادات ضد تهديدات محتملة.. هذا إجراء مشروع حتى يتسنى لنا أن نحمي استقلالنا، ولا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي أمام من يرسلون صواريخ من عفرين".
ويرجع ذلك إلى تصاعد التوترات بين القوات التركية ووحدات حماية الشعب الكردية في منطقة عفرين خلال العام الجاري، وذلك من خلال عمليات القصف المتبادل بالأسلحة الثقيلة بين الجانبين. ومن المحتمل أن يدفع ذلك أنقرة إلى الدخول في عملية عسكرية جديدة، في ضوء تقارير صحفية لم تؤكدها رسميا أنقره حول التجهيز التركي لعملية عسكرية في مناطق ريف حلب الشمالي، في كلّ من تل رفعت، وعفرين، ومنبج شمال حلب، وتل أبيض شمال الرقة.
حراك سوري:
بالتزامن مع تحركات أنقرة، وجهت الحكومة السورية، عبر ممثلها في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، انتقادات حادة للسياسة التوسعية التركية في الشمال السوري في ختام محادثات جنيف يوليو 2017. إذ أشار الجعفري إلى أن دمشق لم تستدع تركيا للتدخل في سوريا، بل إنه اتهم تركيا بالاعتداء بشكل متكرر على سيادة سوريا والعراق، واستقدام العديد من الجماعات الإرهابية، عبر الحدود التركية بدعم من قطر ودول أخرى، مع اشتراك كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وبريطانيا بدعمهم (أي الجماعات الإرهابية) بالصواريخ الأمريكية الصنع، وكذا دعم المعارضة في حلب والعديد من المناطق السورية عسكريًا.
أضف إلى ذلك القذائف التي تتزود بها عناصر الجماعات الإرهابية الممولة بدعم تركي من جميع المعابر الحدودية التركية كمعبر باب الهوى، والفوز، وعين البيضا، وخربت الجوز، والريحانية، وقرية غزالة، وأطما، والتي تستخدمها السلطات والاستخبارات التركية لإدخال الإرهابيين بعد تدريبهم داخل تركيا.
أهداف توسعية:
تهدف السياسة التوسعية التركية للتحرك على أكثر من اتجاه في الشمال السوري، ممثلة في دحر "داعش" من جهة، ووحدات حماية الشعب الكردية من جهة أخرى، ثم إضعاف القوات التابعة لإيران وحزب الله، وكذا نظام الأسد من جهة ثالثة، والسعي لبناء توازنات مع موسكو وواشنطن في سوريا.
ويمكن تفصيل ذلك على النحو الآتي:
أولا: احتواء التهديدات وإحكام السيطرة والقبضة الأمنية على الحدود السورية التركية (يصل طول الحدود المشتركة بين البلدين إلى نحو 911 كيلو مترا)، بما يحول دون تقدم تنظيم داعش، وتدفق اللاجئين، وذلك بعد تحرك القوات التركية والسيطرة على أكبر المناطق في حلب وجرابلس، بما يضعف النظام السوري من جهة، وداعش من جهة أخرى.
ثانيا: الحيلولة دون سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (أو وحدات الدفاع الشعبي التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ) على الحدود السورية - التركية لإقامة حكم ذاتي في المناطق الثلاث الرئيسية، وهي عفرين، وكوباني "عين العرب"، والجزيرة، في الشمال السوري، بما يهدد الأمن القومي التركي، ويقوض الدور الإقليمي لها، حيث يمثل الأكراد 15% من سكان سوريا، والذين سيطروا على 18% من الأراضي السورية حتى أغسطس 2016، وهو ما دفع القوت التركية لتصعيد عملياتها العسكرية للحيلولة دون سيطرة الأولى على المزيد من الأراضي السورية.
ثالثا: مساعي تركيا لامتلاك القوة الإقليمية، عبر السيطرة على الشمال السوري، ومن ثم تصبح حلقة وصل بين الدول العربية وأوروبا، ومركزاً للتجارة، من خلال السيطرة على منابع النفط والمياه في الشمال السوري. وذلك من خلال حصر المناطق التي توغلت فيها تركيا وعزلها عن محيطها السوري، لتُجبر لاحقاً على الخروج من الأراضي السورية. فضلاً عن إيجاد ممرات اتصال آمنة بين القوات السورية الموالية لتركيا قرب حدود (حلب - إدلب)، أي ربط مناطق ريفيْ حلب الشمالي والشرقي مع محافظة إدلب، وهو ما سيعزز نفوذ تركيا ودورها في مجمل الأزمة.
دلالات أساسية:
هناك العديد من الدلالات حول التوسع التركي في الشمال السوري، والذي بدأ بالعمليات العسكرية (درع الفرات)، انتهاءً بإحكام السيطرة على العديد من المناطق، مع استمرار التحرك العسكري مدعوماً بالجماعات المسلحة الموالية لها، ومن أبرز الدلالات ما يأتى:
أولا: التقدم العسكري التركي ميدانياً، حيث تطورت العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا، وتقدمت نحو العديد من المناطق في حلب وجرابلس، وسيطرت على منطقة الباب، وأعزاز، وقريتى جبرين والراي كما سلف البيان، فضلا عن التنسيق مع الجماعات السورية الموالية لأنقرة لاستمرار تنفيذ الهجوم على عفرين بدعم من القوات التركية. ودلَّ على ذلك عمليات القصف المتبادل بالأسلحة الثقيلة بين الجيش التركي ووحدات حماية الشعب الكردية في تلك المنطقة، حيث شدد نائب رئيس الوزراء التركي، " نعمان قورتولموش" على ضرورة تطهير منطقة عفرين من "الإرهاب"، في إشارة إلى ميليشيا "الوحدات" الكردية.
ثانيا: الشروع في إقامة جدران عازلة على الحدود السورية - التركية، حيث شرعت تركيا في بناء الجدران في عدة مناطق على طول الحدود السورية - التركية، وذلك باقتطاع أراض زراعية واسعة على حساب المزارعين السوريين في تلك المناطق، تمهيداً لإقامة منطقة آمنة، حيث أكملت بناء جدار خرساني بطول أكثر من 550 كيلو مترا على طول الحدود مع سوريا في أبريل 2017.
كانت وزارة الدفاع التركية قد نشرت على صفحتها "تويتر" أن الجدار يهدف لتعزيز الإجراءات الأمنية في البلاد، وهو ما رفضته وزارة الخارجية السورية، حيث اتهمت تركيا في رسالة إلى مجلس الأمن بالعدوان على الأراضي السورية ببناء الجدران. في حين كان تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بأن بلاده تخطط لتشييد جدران على طول حدودها مع العراق وإيران، على غرار ما يجري على الحدود مع سوريا.
ثالثا: عمليات الاقتتال بين فصائل المعارضة في الشمال السوري، حيث كانت عمليات الاقتتال بين ميليشيات المعارضة المسلحة في الشمال السوري، لاسيما بين جبهة فتح الشام من ناحية، وفصائل أخرى تزعمتها حركة أحرار الشام من ناحية أخرى، بسبب الضغوط التركية على تلك الفصائل للتماشي مع التحول في الموقف التركي من الأزمة السورية. أيضاً انفصلت حركة نور الدين الزنكي عن معسكر جبهة فتح الشام، التي وسعت معاركها بجوار الحدود مع تركيا، حتى وصلت إلى معبر باب الهوى الحدودي، بما أسهم في الوجود العسكري لقوات درع الفرات مع الميليشيات السورية الموالية لأنقرة.
فى سياق مواز، وفي ظل تمدد جبهة النصرة باتجاه إدلب، فإن ذلك يعطي دوراً كبيراً في الوجود العسكري التركي. تجلى ذلك في تصريح مبعوث الولايات المتحدة الأمريكية الخاص إلى سوريا، مايكل راتني، في 2 أغسطس الجاري بالقول ""في حال تحققت هيمنة "جبهة النصرة" على إدلب، سيصبح من الصعب على الولايات المتحدة إقناع الأطراف الدولية بعدم اتخاذ الإجراءات العسكرية المطلوبة".
رابعا: استخدام تركيا للفيتو الأمريكي، فعلى الرغم من العلاقات المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة، نتيجة الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، فإنها سمحت لتركيا بالتحرك في الشمال السوري، من خلال رفع الفيتو الأمربكي عن التدخل التركي في سوريا لمواجهة جبهة النصرة، وداعش وحركة أحرار الشام، لاسيما في إدلب والرقة ومناطق الشمال، بحسبانها عضواً في حلف الناتو.
ويرجع ذلك لرغبة واشنطن بعدم الزج بجنود أمريكيين في الحرب السورية كما حدث في العراق وأفغانستان. إلا أن هذا الأمر لا ينفي رفع الولايات المتحدة عدد قواتها بعد حادثة خان شيخون، وتأسيس أمريكا لقاعدة عسكرية لها في الحسكة شمال شرقي سوريا. صعيد آخر، يأتي الاتفاق الذي يسمح للولايات المتحدة باستخدام المجال الجوي التركي، والقواعد العسكرية الموجودة في أضنة (إنجرليك) وديار بكر، في شن الحرب ضد داعش.
خامسا: التفاهمات التركية - الروسية في شمال سوريا، حيث تستهدف التفاهمات التركية - الروسية ترك مساحة لتحرك أنقرة لضمان وجود تحالفات جديدة للمعسكر الروسي على حساب واشنطن، فضلاً عن تقاسم النفوذ في تلك المنطقة، مقابل عدم مساس واقتراب درع الفرات التركية من قوات النظام السوري، التي تتحرك بغطاء جوي روسي. فضلا عن ضبط الحدود، ورغبة روسيا في التعاون ضد الفصائل المسلحة. ووضح ذلك خلال لقاء أردوغان ببوتين في موسكو 9 مارس 2016، لتعزيز التفاهمات بين الجانبين حول الملفّ السوري، ولا سيّما عقب التطورات الميدانية في مدينتي الباب ومنبج . إذ سعت أنقرة إلى الحصول على ضوء أخضر روسي بتوسيع عمليات (درع الفرات) إلى مناطق جديدة، والحدّ من نفوذ داعش، والوحدات الكردية المدعومة من واشنطن في شمالي سوريا.
أضف إلى ذلك، اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته موسكو وأنقرة في 30 ديسمبر 2016، فضلا عن زيارة أردوغان إلى سانت بطرسبورج يوم 9 أغسطس 2016 ، حيث استقبلت موسكو الرئيس التركي بإغلاق مكتب التمثيل التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني). وقد عزز التقارب الروسي - التركي أيضاً إبرام صفقة منظومة "إس- 400" الدفاعية في أواخر يوليو 2017 بين البلدين، لتعزيز قدرتها على تحديث منظومتها الدفاعية، في إطار تطور العلاقات الأمنية والعسكرية الدفاعية، بما ينعكس على مجمل العمليات العسكرية داخل سوريا ميدانياً.
كذلك، فإن اجتماعات آستانة، أسفرت عن اتفاق بين الدول الثلاث (تركيا، وإيران، وروسيا) على إعلان مناطق “خفض التصعيد”، فضلاً عن تراجع أردوغان والحكومة التركية عن مطلب رحيل الأسد، الذي يعد نقطة لصالح النظام السوري من جهة، وتعزيز للمساومات بين الدول الثلاث من جهة أخرى.
تحديات مستقبلية:
قصارى القول، إن تركيا عززت سياستها التوسعية في الشمال السوري، والتي أظهرتها التوازنات الروسية - التركية، وكذلك التركية – الأمريكية، لاسيما مع تعقيدات المشهد السياسي، وتقاسم مناطق النفوذ، وفي ظل حراك وحدات حماية الشعب الكردية من جانب، وقوات النظام السوري من جانب آخر .. كل ذلك يفرض تحدياً كبيراً أمام السياسات التركية في المنطقة، بما يئول لتصعيد عملياتها العسكرية، خاصة في قصف المواقع التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية ومنْع تقدمها شمالًا، سواء باتجاه جرابلس وأعزاز، أو الباب.
ذلك إضافة إلى التحديات التي تواجهها تركيا، نتيجة الدعم الخارجي لقوات سوريا الديمقراطية، مما دعا نائب رئيس الوزراء التركي الولايات المتحدة وروسيا للاختيار بين تركيا و"حزب الاتحاد الديمقراطي"، وذلك بالقول “على الولايات المتحدة وروسيا أن تقررا، هل ستُفضّلان ما يقرب من 3 إلى 5 آلاف مسلّح من تنظيم الاتحاد الديمقراطي، على الدولة التركية ذات الـ 80 مليون نسمة، وتتمتع بالاستقرار، وتمتلك أكبر جيش في المنطقة؟”.
ومن ثم، يفرض الوضع السياسي والعسكري في سوريا ضغوط كبيرة أمام تركيا، مع قدوم عمليات تحرير الرقة، لتبين الأيام القادمة، أي الوكلاء ستختارها القوى الكبرى في سوريا. إلا أنه لا شك في أن الأوضاع القادمة أياً ما كانت ستكون ذات تأثير كارثي على الدولة السورية وشعبها الذي مزقته الحرب الأهلية وصراعات القوى الكبرى.