كشفت تطورات الأحداث التي شهدتها مدينة "ماراوي"، بجزيرة "مينداناو" جنوب الفلبين أخيرا، بعدما تمكن مقاتلو تنظيم "داعش" من السيطرة عليها، عن مدى خطورة التنظيم، فى ظل تصاعد نشاطه فى تلك المرحلة، وأن هناك أهدافا يسعى إلى تحقيقها، يمكن أن تمثل خطرا على المنطقة ومصالح الدول الكبرى. وربما هذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الإعلان، عبر وزير خارجيتها، ريكس تيلرسون، فى 14 أغسطس الجاري، عن أنها ستزود حكومة الفلبين بـ "قدرات استخباراتية" تساعدها في الحرب على عناصر تنظيم "داعش".
يطرح ذلك الأمر تساؤلات عدة حول طبيعة الأهداف التي يسعى تنظيم "داعش" إلى تحقيقها، من خلال تصعيد هجماته الإرهابية، لاسيما في ذلك التوقيت، الذى يشهد فيه "التنظيم الأم" تراجعا وانحسارا شديدين، خاصة في ظل احتمالية سقوط مدينة "الرقة"، عاصمته الإدارية والتنظيمية.
كان مقاتلو "داعش" قد شنوا هجوما خاطفا على مدينة ماراوي، فى 16 مايو الماضي، بمساندة خلايا تابعة لهم داخل المدينة، وتمكنوا من خلاله إخضاع المدينة لسيطرتهم، ورفع أعلامهم السُود عليها، بعد قتلهم العديد من رجال الجيش والشرطة. ورد الجيش الفلبيني بشن غارات جوية على مواقع المقاتلين، مما أدى إلى مقتل العشرات، إضافة إلى نزوح ما يقرب من 400 ألف شخص، فضلا عن تدمير أحياء بأكملها، خلال محاولة الجيش استعادة السيطرة على المدينة.
أولاً- خطر متصاعد:
أظهر اختيار "داعش" لجنوب الفلبين، خاصة جزيرة "مينداناو"، كمعقل جديد له، عن احترافية ومهارة. فإلى جانب أنها تسكنها أغلبية مسلمة، تعانى الفقر والإهمال، فهى تتمتع بموقع استراتيجي مهم، إذ تقع على طول الحدود البحرية بين الفلبين، وإندونيسيا، وماليزيا، مما جعلها الوجهة المفضلة للمتطرفين الإندونيسيين والماليزيين الهاربين من قوات الأمن، التي تضيق عليهم الخناق في بلدانهم.
وباتت هذه المنطقة "بؤرة داعشية" جديدة، يمكن أن ينطلق من خلالها التنظيم إلى التوسع والانتشار فى المنطقة بأكملها عبر التواصل مع المجموعات "الداعشية" الأخرى في الدول المجاورة، بما يمكنه من شن العديد من الهجمات الإرهابية، لاسيما أن الهجوم على "ماراوي" لم يكن الأول بالنسبة للتنظيم، حيث نفذ عددا من العمليات الإرهابية، كان من أبرزها قيام أحد مقاتليه بهجوم مسلح على مجمع به فندق وملهى ليلي، قبل أن يلقى المسلح حتفه على يد الشرطة، فى مطلع يونيو 2017، مما أسفر عن مقتل 34 شخصاً.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من قلة أعداد أعضاء تنظيم "داعش" فى الفلبين، مقارنة ببعض التنظيمات الأخرى هناك، فإنهم يتمتعون بخبرة تنظيمية وعسكرية كبيرة، تمكنهم من شن هجمات نوعية، نظرا لكون معظمهم أعضاء سابقين فى جماعة "أبو سياف"، التي بايع عدد كبير من أعضائها "أبو بكر البغدادى" فى 2015، إضافة إلى جماعة "ماوتي"، التي تأسست عام 2012، بزعامة عبد الله موتي، وشقيقه عمر، ثم بايعت "التنظيم" في أبريل 2015، والتى كانت تقوم بشن الهجمات الإرهابية، مثل الهجوم على مدينة "دافاو"، الذي أسفر عن مقتل 14 شخصا، في سبتمبر 2016.
وتكمن خطورة تنظيم "داعش" فى الفلبين فى كونه أصبح قبلة المتطرفين الذين يرغبون فى الالتحاق بالتنظيم الأم فى العراق وسوريا، ولم يتمكنوا من ذلك، خاصة من منطقة جنوب شرق آسيا، الأمر الذي يمكن أن يجعلها "بؤرة داعشية جاذبة"، قد تتحول بمرور الوقت إلى "إمارة داعشية"، خاصة أن بعض التقارير الاستخباراتية كشفت، في نهاية مايو 2017، عن أن المقاتلين الذين اجتاحوا مدينة "ماراوي" كان من بينهم ما يقرب من 40 مقاتلا أجنبيا، بينهم إندونيسيون، وماليزيون، وباكستانيون، إضافة إلى جنسيات أخرى. وكان تنظيم "داعش" قد أصدر تسجيلا مصورا فى يوليو 2016 لمجموعة من أعضائه من منطقة "جنوب شرق آسيا"، وهم يحثون مواطني دولهم على الانضمام للتنظيم في جنوب الفلبين، بدلا من السفر إلى سوريا والعراق.
ثانياً- أهداف التمدد:
يبدو أن هناك مجموعة من الأهداف يسعى تنظيم "داعش" لتحقيقها عبر تمدده وانتشاره فى الفلبين، من خلال تصعيد نشاطه وهجماته فى جنوب البلاد، لاسيما فى ذلك التوقيت. ويمكن تحديد أهم تلك الأهداف فى الآتي:
• تأسيس معقل جديد: ففى ظل تهديد بقاء "داعش" فى العراق وسوريا، يسعى التنظيم إلى تأسيس معاقل جديدة، إلى جانب معاقله الحالية، لاسيما القوية منها، كما فى اليمن، وأفغانستان، ونيجيريا، وذلك من أجل إيجاد بدائل متعددة، يمكن اللجوء اليها فى حالة الانهيار التنظيمي، يضمن من خلالها بقاءه فكريا وعسكريا على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.
وتمثل جزيرة " مينداناو " جنوب الفلبين منطقة مثالية لتأسيس معقل جديد لتنظيم "داعش"، حيث إنها تتسم بالهشاشة الأمنية، والتضاريس الصعبة، ووجود صراعات طائفية، وهى المعايير التى يختارها "التنظيم" فى معاقله الخارجية، حيث إنه لا يمكن له الوجود تنظيميا فى البيئات الطبيعة المستقرة.
• جذب عناصر جديدة: تمثل منطقة جنوب شرق آسيا، خاصة جنوب الفلبين، موردا بشريا بالنسبة لتنظيم "داعش"، يمكن من خلاله تجنيد العديد من العناصر الجديدة، التى يحتاج إليها حاليا، لترسيخ وجوده فى تلك المنطقة، حيث تتسم تلك المنطقة بالكثافة السكانية العالية، التى تنتشر فى أوساطها الأفكار المتطرفة، مما يجعلها بيئة صالحة للتجنيد. وربما يكشف عن هذا التوجه الحوار الذي أجرته مجلة "النبأ" الداعشية، في العدد 84 الصادر 8 يونيو 2017، مع قائد التنظيم فى الفلبين، تحت عنوان "حوار مع أمير جنود الخلافة فى شرق آسيا"، والذي أكد فيه أن التنظيم يسعى إلى ضم عناصر جديدة من داخل الفلبين وخارجها.
• مقاومة الانهيار: ربما يمثل تصعيد تنظيم "داعش" فى الفلبين إحدى المحاولات لرفع معنويات مقاتلى التنظيم وأنصاره، ليس فى العراق وسوريا وحسب، وإنما فى مختلف المناطق التى يوجد فيها، وذلك من أجل منع أى انهيارات تنظيمية في الوقت الحالي، عبر الإيحاء بأن فروع التنظيم تتمتع بالقوة والحيوية، والقدرة على الحركة والانتشار، مما يعنى بقاء الدولة "الداعشية"، وأن سقوط التنظيم الأم فى العراق وسوريا لا يعنى نهايته، أو القضاء عليه، الأمر الذي يمكنه من رفع الروح المعنوية لأعضائه ومقاتليه، وخلق حالة من التماسك التنظيمي.
• بناء مظلة "داعشية": يوجد فى جنوب الفلبين عدد من المجموعات المسلحة، مثل "جبهة تحرير مورو الإسلامية"، و"الجبهة الوطنية لتحرير مورو"، كما كان وجود بعض المجموعات التابعة لـ "جماعة أبو سياف". وبالتالي، فإن تصعيد "داعش" لهجماته الإرهابية، خاصة الهجوم النوعى على مدينة "ماراوي"، يأتى فى سياق رغبته فى تصدر مشهد العنف فى البلاد بأن يصبح التنظيم القائد والأكبر فى البلاد، وصاحب المظلة الفكرية التى يجب أن يقبع تحتها الجميع، نظرا لأن الفكر "الداعشى" لا يجيد التعايش، أو التعاون، أو حتى التحالف مع الأفكار الأخرى، وإنما يسعى إلى ضم كل المجموعات المتطرفة إلى صفوفه.
أخيرا: يمكن القول إن تنظيم "داعش" يسعى إلى استغلال الأوضاع السيئة في جنوب الفلبين في نشر أفكاره على أوسع نطاق، وتجنيد عناصر جديدة، حتى يتمكن من بناء معقل قوى، يكون بمنزلة نقطة انطلاق للتمدد في كل مناطق "جنوب شرق آسيا"، مما يعد تهديدا خطيرا لهذه المنطقة، الأمر الذي بات يفرض على جميع دول تلك المنطقة التكاتف والتعاون على كل الأصعدة من أجل القضاء على الخطر "الداعشى"، قبل أن يستفحل، ولا يمكن القضاء، أو حتى السيطرة عليه.