##
كان لسوريا دوما مكانة خاصة فى الوجدان والسياسة المصريين. ورغم قسوة الأزمة السورية وضراوتها، فإنها أحيت الشعور بتلاحم الشعبين المصرى والسورى، عندما فتحت مصر أبوابها لاستقبال السوريين، ليس كلاجئين، وإنما إخوة وأشقاء لهم كامل الحرية فى الدراسة، والعمل، والاستثمار. ومنذ تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى السلطة، تم تأكيد التوجه الذى يليق بمكانة مصر وعراقة قيمها، التى لا تقبل التفريط فى أمن واستقرار أى بلد عربى، وتدير سياستها الخارجية بقيم الفرسان والقادة. وهنا، تلاقت التوجهات المصرية مع نظيرتها الروسية الساعية لاجتثاث الإرهاب وجذوره فى سوريا، والحفاظ على وحدة الأراضى السورية، وعلى كيان الدولة السورية ومؤسساتها، وإعادة الاستقرار لها.
وقد نجحت روسيا والجيش السورى فى تحقيق خطوات مهمة فى هذا الاتجاه، وتراجع تنظيم "داعش"، وتكررت هزائمه، وتمت تصفية زعيمها أبى بكر البغدادى، وأكثر من 30 قيادة لـ"داعش" فى إحدى الغارات الروسية على مركز قيادة تابع للتنظيم فى الرقة السورية ليلة 28 مايو. ورغم النجاحات التى تحققت، ترى موسكو أنه من المبكر الحديث عن هزيمة كاملة أو نهاية لـ "داعش". فما حدث هو تراجع مهم للتنظيم، ولكن لا تزال هناك جيوب خطيرة له، ولتنظيمات لا تقل خطورة عنه، خاصة فى سوريا.
ولذا، فإن التحرك الروسى المستقبلى يقوم على استمرار العمليات والتمشيط على الأرض للجيش السورى بمساعدة الضربات الجوية الروسية عند الحاجة. يتزامن هذا مع دفع المسارات المختلفة للتسوية، والتى تتضمن، إلى جانب المسار السياسى فى جنيف، كلا من مسار أستانا (مع إيران وتركيا)، وعمان (مع الأردن والولايات المتحدة) بشأن مناطق خفض التصعيد فى سوريا. وهى أربع مناطق أساسية، الأولى تمتد فى شمال سوريا، وتشمل ريف إدلب، والمناطق المحاذية، وشمال شرقي ريف اللاذقية، وغربي ريف حلب، وشمال ريف حماة. المنطقة الثانية فى الغوطة الشرقية. الثالثة تقع شمالي ريف حمص، وتشمل مدينتي الرستن وتلبيسة، والمناطق المحاذية. أما المنطقة الرابعة والأخيرة، فتمتد في جنوب سوريا في المناطق المحاذية للحدود الأردنية. وتعدّ روسيا هذه المناطق خطوة مهمة لتمكين الجيش السورى، وتضييق الخناق على الإرهابيين لتصفيتهم تماما، وليس لتقسيم سوريا كما يعتقد البعض، كما تراها ممهدة ومكملة لمسار جنيف السياسى.
وشهدت الفترة الأخيرة انطلاق مسار ثالث بشأن مناطق خفض التصعيد، إلى جانب أستانا وعمان، وهو مسار القاهرة. ففى 22 يوليو، تم توقيع اتفاق خاص بآلية عمل منطقة خفض التصعيد فى الغوطة الشرقية بوساطة مصرية بين وزارة الدفاع الروسية، والمعارضة السورية، وجيش الإسلام.
وفى الأسبوع التالى، وتحديداً فى 31 يوليو، نجحت الوساطة المصرية فى التوصل إلى اتفاق جديد بين ممثلى وزارة الدفاع الروسية، والمعارضة السورية المعتدلة حول نظام عمل منطقة خفض التصعيد في سوريا شمال مدينة حمص، على أن يبدأ وقف إطلاق النار فى المنطقة المذكورة الساعة 12 ظهر يوم الخميس 3 أغسطس. ويشمل ذلك 84 بلدة سورية، يقطنها أكثر من 147 ألف نسمة.ويعقب وقف إطلاق النار إدخال المساعدات الإنسانية إلى ريف حمص الشمالي، فى محاولة للتخفيف من معاناة السوريين الذين طحنتهم الحرب بين رحاها.
على صعيد آخر، من المنتظر أن تلعب مصر دورا أوسع فى مفاوضات جنيف من خلال منصة القاهرة التى تعد إحدى منصات ثلاث للمعارضة تشارك فى المفاوضات (الرياض، القاهرة، موسكو)، خاصة أن مفاوضات جنيف دخلت مرحلة مهمة تقتضى تنسيق مواقف المعارضة. وقد عبر رئيس وفد منصة "القاهرة" للمعارضة السورية، فراس الخالدي، عن أهمية أن يكون لدى المعارضة، بمنصاتها الثلاث موقف موحد حيال المناقشات التقنية التي تجري حول المسائل الدستورية والقانونية. ومن المقرر أن تنطلق الجولة الثامنة من المحادثات السورية في جنيف نهاية الشهر الجارى، وستمهد المسارات الثلاثة الخاصة بمناطق خفض التصعيد (أستانا، عمان، القاهرة) لمفاوضات جنيف، وستحدد كثيراً من معالمها. وتعمل كل من مصر وروسيا على إنجاح المفاوضات بحسبان ذلك خطوة ضرورية لاستقرار سوريا.
إن مصر قوة إقليمية لها مكانتها وتأثيرها، كما أصبحت روسيا قوة صانعة وقائدة للأحداث فى المنطقة، الأمر الذى يفرض على البلدين ضرورة التعاون والتنسيق لإعادة ترتيب الأوضاع، وإصلاح ما أفسدته السنوات الست الماضية، وما أحدثته من هزات عنيفة فى كيان الدول والمجتمعات فى سوريا، وليبيا، واليمن، وغيرها، وكانت مصر الناجى الوحيد منها، وإن كان بجروح عميقة تحاول تضميدها. وتمتلك روسيا معلومات وخبرة واسعة فيما يتعلق بالجماعات والعناصر الإرهابية وتحركاتها فى المنطقة، كما تمتلك تكنولوجيا متقدمة فى مجال مكافحة الإرهاب يمكن لمصر الاستفادة منها. وهناك بالفعل تعاون قائم يتعين الدفع به على مختلف المستويات والأطر، منها اللجنة المصرية- الروسية المشتركة لمكافحة الإرهاب، وغيرها من أطر التعاون الأمنى لمكافحة الإرهاب فى مصر والجوار المصرى فى سوريا، وليبيا، وغزة، وغيرها.
ولا يمس التعاون مع روسيا التزامات مصر وشراكتها مع حلفائها الآخرين فى المنطقة وخارجها. فالعالم تغير، وكل الدول تنفتح على غيرها فى حدود ما تقتضيه مصالحها، وضرورات أمنها القومى. لقد اختفت الأيديولوجيات، والخطوط الوهمية التى أوجدتها، وأصبحت جزءاً من ماض لا يريد أحد العودة إليه، فالكل حريص على الانطلاق لآفاق أرحب من التعاون البنّاء.
رابط دائم: