أصبح الوضع الإقليمي والدولي غاية في التعقيد، إلى حد فشلت معه محاولات كثيرة لتحليله، وتوقع سيناريوهاته المستقبلية، نتيجة عوامل متشابكة تتعلق بالبنية الداخلية للدولة الوطنية في الوطن العربي، ومحاولات تفكيكها، والقضاء على ملامحها، وهو الأمر المرتبط بتصورات للقوي العظمي والدول الكبري في العالم، التي كانت تسعي إلى إعادة تخطيط المنطقة بما يتواءم مع مصالحها، وما تتصوره من أن تغييرات بعينها، وإعادة تقسيم بعض الدول ستكون هي الضامن للأمن والاستقرار العالميين.
تزامن ذلك مع تفجر العديد من الأزمات المتشابكة التي ألقت بظلالها على شكل وطبيعة التفاعلات الإقليمية والدولية، ومنها الإرهاب، والأزمات الاقتصادية العالمية، وبزوغ قوي وتحالفات إقليمية جديدة تحاول أن تكون هي الأكثر نفوذا على الساحة، إضافة إلى أزمات نتيجة لاحتياجات تتعلق بأمن الطاقة، والمياه، والغذاء، والقدرة على تحقيق معدلات مناسبة من التنمية المستدامة في الدول النامية، ستكون هي الحاكم في شكل، وطبيعة، ومسار أزمات دولية، قائمة أو مستقبلية.
ومنذ تأسيس دورية "السياسة الدولية"، التي أشرف برئاسة تحريرها، بدءا من هذا العدد، كانت هي الأكثر تأثيرا وتحليلا لمسار التفاعلات الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على الدور والفاعلية المصرية، سواء عبر الدراسات العلمية المتخصصة، أو التقارير، أو القضايا، أو المقالات، إضافة للدور الذي لعبته الدورية دائما في إثراء المكتبة العربية بعرض الندوات والفاعليات المتعلقة بمسار التفاعلات الإقليمية والدولية، أو من خلال تقديم عروض لأحدث الكتب في مجال العلاقات الدولية. ومن ثم، أجد نفسي في مهمة ثقيلة، أرجو أن تكون لدي القدرة على إتمامها على النحو الأمثل، بالتعاون مع مجلس التحرير، والقسم الفني، بالإضافة إلى السادة المتعاونين من الباحثين والأكاديميين المتخصصين مع هذه الدورية العلمية الرائدة في مصر والوطن العربي، منذ صدر العدد الأول منها في يوليو 1965، برئاسة تحرير د. بطرس بطرس غالي، وحتي تسلمتها من الزميل أ. مجدي صبحي.
ويرجع ثقل المهمة لمجموعة من العوامل، يتعلق أولها بواقع صعب ومعقد، تعانيه الصحافة الورقية المصرية، وفي القلب منها الدوريات والإصدارات المتخصصة، نتيجة لتراكمات المشكلات المنهجية، والمعوقات البيروقراطية في إدارة المؤسسات الصحفية على مدي عقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذي يفرض قيودا وتحديات هائلة على كل من تولي مسئولية إدارة وتحرير المؤسسات الصحفية القومية في هذا التوقيت. يستلزم هذا الواقع المتأزم جهودا مشتركة يقوم بها رؤساء التحرير، بالتعاون مع رؤساء مجالس الإدارات، وبالتنسيق مع الهيئة الوطنية للصحافة، لاعتماد خطط التطوير، وإعادة الهيكلة، وفقا لآليات تراعي قواعد الرشادة الإدارية، والقدرة على تقديم الإصدار الورقي في صورة تمكن من تسويقه، إضافة إلى مراعاة التطور في مدركات المتلقي، واتساع مآرب قدرته على المعرفة، والوصول إلى المعلومة أو استهدافه بها. وبالتالي، باتت هناك قواعد حاكمة لخطط التطوير، إذا كانت هناك رغبة حقيقية في استمرار الوجود في السوق الورقي التنافسي على المستويين الإقليمي والدولي.
من هنا، تبرز الإشكالية الثانية المتعلقة بأنه في إطار السعي للتطوير بما يتلاءم ومتطلبات السوق، ينبغي على كل دورية أو إصدار الحفاظ على صورته الذهنية لدي جمهوره، وهو الأمر الذي يفرض تحديات هائلة ما بين الرغبة في التطوير، واستخدام أحدث التقنيات الهائلة في التصميم، والتبويب، والإخراج الفني، وبين الحفاظ على الشكل التقليدي الذي يمكن أن يمثل حاجزا أمام المتلقي الجديد المستهدف الذي يمكن اجتذابه. فالأمر هين، إذا رغبنا في الحفاظ على الجمهور التقليدي لـ "السياسة الدولية". ولكن الأمر يزداد صعوبة عندما تتعلق الرغبة في الحفاظ على الجمهور التقليدي، بالرغبة في الانتشار بين قطاعات جديدة. من هنا، كان قرار مجلس تحرير المجلة هو الاتجاه نحو التجديد الجذري، سواء في تصميم غلاف الدورية -وهو الأمر الذي تم إنجازه في هذا العدد- أو من خلال إعادة تبويب أقسام المجلة، وهو ما سيتم تنفيذه مع عدد أكتوبر 2017، لكي تكون هناك مساحة أوسع لتناول قضايا ذات طبيعة مختلفة عما عرفته قواعد تفسير العلاقات الدولية، وتحديد مؤشراتها، واتجاهاتها، وطبيعة تفاعلاتها، وباتت -من جهة أخري- لها انعكاساتها على تفسير، بل والتحكم في سلوكيات اللاعبين والفاعلين في السياسة الخارجية للدول.
في إطار ما سبق استعراضه، تأتي الإشكالية الأهم، وهي تلك المتعلقة بطبيعة تعقد وتشابك التفاعلات على مستوى الوطن العربي، ودول الجوار الإقليمي، وتنامي أدوار لاعبين دوليين، كانت لهم مخططات واضحة، برعاية لاعبين من قلب الوطن العربي، ودول الجوار الإقليمي، ترمي إلى تدمير مفهوم الدولة الوطنية، وصولا إلى غاية تذويب مفهوم القومية العربية، في إطار مشروعات تحقق طموحات كل هؤلاء على حساب حق شعوبها في الاستقرار والتنمية الحقيقية، وتحت شعارات تبدو في ظاهرها أخلاقية وإنسانية، وهي في الواقع بعيدة كل البعد عن أدني درجاتها. يأتي كل هذا في سياق عالم يخوض مرحلة مخاض لنظام عالمي جديد، يصعب على الكثيرين، حتي هذه اللحظة، تلمس ملامحه، أو التوصل إلى اتجاه التفاعلات التي ستكون حاكمة فيه، وترتيب القوي الدولية التي سيكون لها الصوت الغالب داخله، وكل ذلك بفضل تنامي مؤثرات لم تكن كثيرا لتدخل في موازين القوي الدولية، ولكنها باتت حاكمة له، ولاتجاه التفاعل بداخله. ولا يخفي، في هذا السياق، أن هناك إشكاليات كان يتم تصديرها لكي تمثل عنصر الحسم لشكل النظام العالمي والإقليمي، الذي يجري الترتيب له، على حساب الدولة الوطنية، وإخفاء هوية وشخصية المجتمع بداخله، وجعله يدور في حلقة لا مفرغة من التهديد، وعدم الاستقرار، وتغليب نموذج الحكم الغربي، عبر دساتير مدنية يتم التقليص فيها من فرص ظهور شخصيات كاريزمية يمكن أن يكون لها دور فاعل في تقرير مصير وهوية دولها وأولوياتها. ولعل أبرز هذه الإشكاليات تتمثل في التنظيمات الإرهابية العابرة لحدود الدولة الوطنية، والتي يمكن أن تتمدد عبر حدود الدول التي تم تقويضها وتمهيدها لكي تكون دولا فاشلة، بحيث تتمكن هذه التنظيمات، عبر الدعم المباشر أو غير المباشر من دولة داخل الوطن العربي، أو دول الجوار المتاخمة له، من تنفيذ هذه المخططات، عبر نشر أفكار التطرف، وجلب من ينجحون في استقطابه، لكي يكون نواة لمخططات عملياتهم الإرهابية.
ميلنا للتجديد ليس خروجا على "ميثاق العمل"، الذي وضعه الأب الروحي للسياسة الدولية د. بطرس بطرس غالي، وإنما هو محاولة للحفاظ على بقاء هذه الدورية، وثبات عملية إصدارها في توقيتها، وفقا لمثيلاتها من الدوريات العالمية، مع مراعاة المتغيرات السابق الإشارة إليها، والتي بات للصورة، والخرائط التفاعلية، والجداول، والرسوم البيانية دور حاكم فيها. ويتزامن مع ذلك محاولتنا تطوير الموقع الإلكتروني، لكي يكون منفذا لتقديم تحليلات سريعة لما يستجد من أحداث قد لا تحتمل فرصة التأخير، حتي موعد إصدار الدورية اللاحقة، في ضوء تواتر الأحداث بصورة غير مسبوقة على جميع مستويات الدوائر المحيطة، والمؤثرة في الأمن القومي المصري والعربي.
من هنا، سيجتهد فريق العمل في "السياسة الدولية"، والذي أشرف بقيادته، في الحفاظ على استمرار روح "السياسة الدولية" كما ورثناها عن الآباء المؤسسين، والتي إن كانت قد لاءمت توقيتات سابقة، فإن الأوضاع التكنولوجية، والتقنية، والسياسية، والاقتصادية تفرض علينا التعامل بآليات مختلفة، وبأفكار وأساليب أكثر تطورا في العرض والتبويب، بما يتيح الفرصة أمام الجميع للتمتع بكم من المعلومات الموثقة علميا، والتي تحوي تحليلا آنيا ومستقبليا لمسار الأحداث على مستوى الدوائر الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية، وهي دائرة العالم العربي، ودول الجوار، والدائرة الإفريقية، والدائرة الأوروبية، والدائرة الآسيوية، ودائرة الأمريكتين، بالإضافة إلى أبواب تختص بتحليل قضايا معاصرة باتت مؤثرة وفاعلة، بل وحاكمة، في الواقع العالمي الذي نعيشه، علاوة على انعكاسات كل ذلك على الواقع المصري، واتجاهات التفاعل الحاكمة بينه وبين كل الدوائر والقضايا المتقاطعة معها، وهو الأمر الذي تفرضه علينا تطورات لم يعد من الممكن تجاهلها، أو تجاوزها.
سنعمل، كفريق عمل، على استقطاب مجموعة من أهم الكتاب، والخبراء، وأساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، العرب والأجانب، كما سنعرض لأهم التجارب والخبرات في التنمية والبناء على طريق تحقيق التنمية المستدامة في الدول الشبيهة بتجارب الدول العربية، وكذلك للخبرات الدولية في مواجهة الإرهاب، وآليات دعم تشكيل وتبادل الخبرات الإقليمية والدولية للحد من مخاطر انتشار وتمدد هذه الإشكالية الدولية، التي باتت مهددا رئيسيا للسلم والأمن الدوليين، بما يتوافق مع ثبات الاستراتيجية المصرية المتعلقة بمكافحة الإرهاب.
سنعمل كل ذلك، والأمل يحدونا في أن نساعد الباحثين والأكاديميين المتخصصين في توفير الدعم العلمي اللازم لأنشطتهم البحثية، والوقوف على الخبرات والتجارب الدولية في مختلف الإشكاليات المتعلقة بإعاقة وتهديد بقاء الدولة الوطنية العربية، ومحاولة تذويبها، وهدم مؤسساتها، مراعين أننا جزء أصيل من وطن عربي، أُهدرت كثيرا قدراته وإمكانياته في صراعات، واستغلته أطراف أخري في مخططات خبيثة لكي يتحول إلى جزء في مشروع للشرق الأوسط الكبير، وهو ما يتوافق مع توجه السياسة الخارجية المصرية نحو إقامة علاقة متوازنة مع كل أطراف النظام الدولي من دول، ومنظمات، ومؤسسات.
ولا يفوتني، وأنا أكتب الافتتاحية الأولي لي، أن أتوجه بالشكر والتقدير والعرفان للأستاذ الدكتور أسامة الغزالي حرب، الرجل الذي استقبلني في هذا المكتب عام 1991، وأول من وضع قدمي على الطريق الصحيح، والذي أثري المجلة بفكره، وجهده، وبالعمل البحثي، وتبني أسماء صارت نجوما لامعة اليوم في مجال العلوم السياسية، وكذلك للأب الروحي الذي منه تعلمنا القيم، والأخلاق، والإنسانية، والعلم، الأستاذ والمفكر الراحل السيد يسين، الرجل الذي كان حريصا على تطبيق المعاصرة والحداثة، في إطار الحفاظ على التقاليد العلمية والأخلاقية.
ولقراء "السياسة الدولية" أعاهدكم وفريق العمل على أن نحافظ على ما ورثناه، في إطار من التحديث، يتلاءم والتطورات التي طالت مجال التصميم، والإخراج الفني، دون الإخلال بالمضمون العلمي، وتدقيقه.
رابط دائم: