البيانات حول المبالغ التي دفعتها قطر لتمويل عملياتها الخارجية، والتي ساهمت في زعزعة الاستقرار، بما في ذلك في محيطها الخليجي رغم تفاوتها، إلا أنها كبيرة في كل الأحوال، فإذا أخذنا على سبيل المثال البيانات الأقرب للصحة، والتي أعلنتها بصورة رسمية جهات حكومية تونسية من أنه تم تحويل ما يقدر بثمانية مليارات دولار للمنظمات المتطرفة في ليبيا، مما يعني أن أضعاف هذا المبلغ تم تحويلها لمثل هذه المنظمات في سوريا والعراق واليمن ولبنان، إضافة إلى ما كشف عنه مؤخراً من تمويل منظمات معارضة في كل من السعودية والبحرين.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ما الحكمة في ذلك؟ وماذا تريد قطر من تبديد ثروتها الناضبة في تمويل عمليات خارجية ضمن لعبة أكبر منها ومن قدراتها الجغرافية والسكانية، مما أدى إلى ضياع عشرات المليارات التي ذهبت هباء بانتهاء اللعبة كما يتضح مع انتهاء دور قطر وإمكانية تقوقعها في الداخل مرة أخرى؟ في المقابل كان بإمكان متخذ القرار في قطر تسخير هذه المليارات في تنمية الاقتصاد القطري، وبالأخص قطاع الطاقة المتجددة والقطاعات غير النفطية، ففي المجال الأول لا زالت قطر متخلفة عن شقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي، فقطر تملك إمكانيات كبيرة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وبالأخص الطاقة الشمسية، إلا أن الاستثمارات في هذا المجال لا تذكر، على العكس من مثيلاتها في السعودية والإمارات، حيث أقيمت في الأخيرة أكبر محطتين للطاقة الشمسية في العالم في كل من أبوظبي ودبي ضمن توجه للتحضير لفترة ما بعد النفط والغاز. وفي الوقت نفسه ساهمت الإمارات في إقامة العديد من المشاريع المماثلة لإنتاج الطاقة المتجددة في مختلف بلدان العالم لدعم التنمية، وخصوصاً في البلدان النامية، إذ ينطبق ذلك أيضاً على طاقة الرياح، حيث دشنت الإمارات مصفوفة لندن.
أما القطاعات الاقتصادية غير النفطية، فإنها بحاجة لاستثمارات ضخمة في قطر لدعم هذه القطاعات، فالعالم يبتعد بسرعة كبيرة عن النفط والغاز، ولا بد من تحضير البديل للمحافظة على مستويات المعيشة وضمان حياة مستقرة للأجيال القادمة، فالمليارات التي أهدرت في الخارج، كان بالإمكان استغلالها لبناء بنية تحتية متقدمة لإقامة محطات كبيرة للطاقة الشمسية وتصديرها للخارج، وهي كما هو معروف طاقة نظيفة ودائمة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان بالإمكان توجيه هذه المليارات لإنشاء صندوق قطري للأجيال القادمة، مثلما عملت الكويت منذ سنوات طويلة، حيث يخُصص جزءاً مهماً من عائدات النفط سنوياً لتحويله إلى هذا الصندوق الذي يهتم بتنمية الموارد للاستفادة منها للأجيال المستقبلية.
صحيح أن قطر تملك صندوقاً سيادياً تقدر موجوداته بـ300 مليار دولار، إلا أن إقامة صندوق آخر مسألة مهمة في ظل تمتع قطر بفوائض مالية استخدمت في غير محلها، فالكويت على سبيل المثال تملك أيضاً صندوقاً سيادياً يبلغ حجم موجوداته ضعف الصندوق القطري، إلا أن ذلك لم يمنعها من تأسيس صندوق الأجيال القادمة.
هذه مجرد أمثلة لتوضيح أن قطر لا زال أمامها الكثير للقيام به في مجال التنمية والتحضير للمستقبل وخلق بدائل للنفط والغاز، إلا أن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه، وإنما سارت باتجاه تمويل المنظمات المتطرفة وتم ضياع فرص لا تعوض لأسباب غير معروفة احتار الكثير من الخبراء والمحللين في تفسيرها وإيجاد مبررات لها.
الأزمة الحالية ربما تمنح قطر فرصة تاريخية أخيرة لمراجعة توجهاتها وتسخير ثرواتها لبناء اقتصاد متطور لا يعتمد على النفط والغاز مع اندماجها في مكونها الخليجي ضمن السوق الخليجية المشتركة بعيداً عن الاستقطابات الإقليمية، كمحاولة استرضاء نظام ولاية الفقيه في إيران الذي يضمر الشر لدول مجلس التعاون وللدول العربية بشكل عام.
وبما أن تجربة دول مجلس التعاون الاقتصادية متنوعة، فقد تمكنت قطر في السنوات الماضية من الاستفادة بشكل خاص من التجربة الإماراتية التي أضحت نموذجاً عالمياً يقتدى به، فتمكنت من تطوير قطاعها السياحي وقطاع النقل الجوي، وكذلك استفادت نسبياً من التجربة السعودية في المجال الصناعي، إلا أن إقحام نفسها في عمليات تمويل مشبوهة ودعم منظمات تخريبية لم يفوت عليها فرصاً تنموية مهمة فحسب، وإنما عرض ويعرض ما حققته للخطر، ولها في وضع قطاعها السياحي والفندقي وشركة الطيران القطرية مثالاً حياً لما يمكن أن تؤول إليه أوضاعها، إذا استمرت في المكابرة، فالدول، كدولة صغيرة يفترض أن تلتزم قبل غيرها بنهج سلمي بعيداً عن استقطابات الكبار، مما يجنبها تداعيات كثيرة، ويفتح أمامها مجالات واسعة لتسخير إمكاناتها وقدراتها المالية للتنمية والاستقرار.
--------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 22-6-2017.
رابط دائم: