ثمة علاقة وثيقة بين الطريق التنموى الذى تسلكه الدول النامية، وبين ما يتحقق لها من إنجازات اقتصادية. فالدول التى سلكت طريق «التوجه للتصدير» وهى تبنى هياكلها الإنتاجية، تفوقت، فى الغالب، فى إنجازاتها الاقتصادية على تلك التى سارت على طريق «الإحلال محل الواردات».
لم يكن ذلك التفاوت التنموى راجعًا لاختلاف هدف كل من هذه الدول، أو لتفوق أحد الطريقين على الآخر، بل إن الاختلاف الوحيد كان فى حسن السير على الطريق المختار.
لأن المقام لا يتسع هنا لتقييم مناهج الدول النامية فى التنمية الاقتصادية وطرقها المختارة، فإننى أود فقط الإشارة إلى وجود طريق ثالث يمكن أن يسير عليه الاقتصاد المصرى، بصفته أحد الاقتصادات الآخذة فى النمو، حتى يتمكن من التصدى لمشكلاته الراهنة وتحقيق هذه التنمية. وهو طريق يحاول أن يجمع بين الحسنيين فى استراتيجيات التنمية الاقتصادية. فلا هو يركز على التوجه الخارجى للاقتصاد عبر تعزيز طاقته التصديرية فحسب، ولا هو يدعوا لانكفاء الاقتصاد على ذاته والسعى للإحلال محل الواردات. ذلك لأن هذا الطريق يأخذ من الانفتاح على الخارج الجانب المفيد لاستدامة التنمية، ألا وهو الانفتاح على الاستثمار الأجنبى وليس الانفتاح الاستيرادى. كما يهتم بالبعد الداخلى فى التنمية، من خلال اقتناعه بأهمية توطين هذا الاستثمار فى القطاعات التى تقلل، بالتدريج، اعتماد الاقتصاد المصرى المفرط على الاستيراد من الخارج. ولهذا فإنى أسمى هذا الطريق، أو قل الاستراتيجية المقترحة، بـ «الاستثمار محل الواردات». ولكن ماذا عن معالم هذه الطريق الرئيسية؟ الفقرات التالية تحاول توضيحها.
إن أى استراتيجية تنموية ترسم للاقتصاد المصرى لن يكتب لها النجاح إلا إذا انطلقت من الفهم الصحيح لطبيعة بنيانه الإنتاجى، وللاستثمارات (الوطنية والأجنبية) التى يحتاجها هذا البنيان، كى تعالج من اختلالاته الهيكلة، وتزيد من طاقته على التراكم والنمو.
وإذا كان أحد لا يجادل فى الدور الرئيسى الذى لعبه الاستثمار الأجنبى المباشر فى إنجاح التجارب التنموية الرائدة عالميا (أشهرها تجارب النمور الأسيوية)، إلا أنه بإمعان النظر فى هذا الدور يمكننا أن نرى بوضوح كيف أن الدول المضيفة لهذا الاستثمار قد خططت بكفاءة لعملية الترويج لقدومه، ثم لتوطنه فى القطاعات الاقتصادية المهمة للتنمية، ثم لتوسعه وإعادة استثمار أرباحه محليًا، ثم لمحاكاته وتقليده، بتأسيس كيانات استثمارية وطنية مهمتها التعلم من خبراته والسير على نهجه. ولكى تنجح خططها تلك، هيأت تلك الدول مناخها التشريعى والتنظيمى، وقدمت التسهيلات الضرورية للاستثمار الأجنبى المباشر، للدرجة التى جعلتها أكثر تنافسية من غيرها من الدول والأقاليم الجغرافية المناظرة.
ولإن كانت أغلب تلك التجارب الدولية قد ركزت على دعوة الاستثمار الأجنبى المباشر لقطاعات التصنيع المتجه للتصدير، فإن استراتيجية «الاستثمار محل الواردات» التى اقترحها للاقتصاد المصرى، فى وضعه الراهن، ترتكز على دعوة هذا الاستثمار الأجنبى للتوطن فى قطاعات الإنتاج محل الواردات، سواء كانت تلك الواردات استهلاكية أو وسيطة أو حتى رأسمالية.
لقد كانت المقابلة بين أرقام الاستثمار الأجنبى المباشر المتدفق للاقتصاد المصرى وبين أرقام وارداته من الخارج، هى دافعى الرئيسى لصياغة هذا البرنامج المقترح. ذلك أن نظرة إجمالية على تفاصيل ما يجذبه من استثمارات أجنبية وما يستورده من سلع وخدمات، كما ترويها سلاسل بيانات البنك المركزى المصرى (متاحة على موقعه على الإنترنت)، تعكس وجود طاقة جذب كبيرة لنوعية الاستثمار الأجنبى الباحث عن الأسواق، لكى يتوطن محليًا فى القطاعات المنتجة لبدائل تلك الواردات. ما بالنا إذا علمنا أن تدفقات تلك الاستثمارات بلغت فى العام المالى الماضى 2015/2016 ما قيمته 7 مليارات دولار تقريبا، بينما بلغت، فى المقابل، التدفقات الاستيرادية من الخارج مبلغ 57.4 مليار دولار. أى أن الاقتصاد المصرى يستورد من العالم الخارجى أكثر من ثمانية أضعاف ما يتمكن من جذبه من استثمارات مباشرة من هذا العالم!.
ولما كان التوازن الاقتصادى الخارجى المنشود للاقتصاد المصرى يقتضى زيادة التدفقات الأولى وتقليل الثانية، فإن استراتيجية «الاستثمار محل الواردات» التى اقترحها يمكنها أن تحقق ذلك، لأنها:
أولاــ تهدف للترويج الخارجى لفرص الاستثمار فى القطاعات التى تنتج بدائل الواردات. إذ أن وجود طلب استيرادى عالى على منتجات تلك القطاعات ــ كنتيجة منطقية لاتساع السوق المصرية كونها أكبر الأسواق فى الإقليم الجغرافى العربى والإفريقى ــ يحفز الاستثمار الأجنبى الباحث عن الأسواق على التدفق. لأنه بذلك التدفق سيحقق وفورات الاقتراب من الأسواق، ويزيد، من عائده النهائى على الاستثمار. ولكى تصبح رؤية هذه الاستراتيجية أكثر وضوحا، فإنه يتعين على فرق الترويج الخارجى للاستثمار التركيز على فرص الاستثمار فى بدائل الواردات المصرية من السلع الاستهلاكية كالسيارات والأجهزة الكهربائية المنزلية والهواتف المحمولة. وفى السلع الوسيطة، ينبغى التركيز على فرص الاستثمار فى قطع غيار السيارات وصناعة الورق والمنتجات الكيماوية واللدائن. أما فى السلع الرأسمالية، فإن الفرص الملائمة للترويج تتركز فى صناعة أجهزة الحاسب الآلى والمحركات والمولدات الكهربائية.
ثانياــ تسعى لجذب وتوطين أشهر العلامات التجارية التى تنتج وتصدر للسوق المصرية حاليا. فعبر تحليل هيكل الواردات المصرية جغرافيا وقطاعيا، يمكننا أن نحدد بدقة أهم الشركات المستهدف جذب استثماراتها لكى تنتج محليًا ما نستورده من فروعها الدولية. ويعنى ذلك أن الترويج الخارجى للاستثمار، كما عرضناه فى النقطة الأولى، ينبغى أن يركز على تحفيز الشركات التى تصدر السلع الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية للسوق المصرية لنقل أنشطتها التصنيعية له، حتى لو تطلب ذلك تقديم إعفاءات إضافية لهذه النوعية من الشركات، وحتى لو تطلب ذلك أيضا الدخول فى شراكة استثمارية حكومية معها.
ثالثاــ تحاول بناء هيكل إعفاءات متطور لمساند الاستثمار الأجنبى المباشر الذى سيتوطن فى تلك الصناعات المنتجة لبدائل الواردات لحفزه على إعادة استثمار أرباحه محليا. ذلك لأنها تدرك أن إعادة استثمار هذه الأرباح فى الاقتصاد المصرى، والتوسع فى القاعدة الإنتاجية الموجهة لتلبية الطلب المحلى، ثم، فى مرحلة لاحقة، التوجه للتصدير فى الأسواق القريبة، يساهم بصورة مباشرة فى تقليل التدفقات المالية الخارجية للاستثمار الأجنبى من جانب، وتقليل الحاجة للواردات وزيادة الصادرات من جانب آخر.
رابعاــ تدعوا لمحاكاة هذه النوعية من الاستثمارات الأجنبية باستثمارات وطنية، بعد النجاح فى جذبها وتوطينها فى الاقتصاد المصرى. ذلك أن النجاح فى هذه المحاكاة لن يمكن الاقتصاد المصرى من التحرك بخطى متسارعة فى طريق التنمية فحسب، بل أنه ببناء قدراته الذاتية للتنمية، سيساعده على استقلالها.
إن استراتيجية «الاستثمار محل الواردات» تعى جيدا أنه بسبب اتساع حجم السوق المصرية، وما يتاح فيه من عمالة فنية ماهرة، ومن بنية أساسية وتشريعية ملائمة (وخصوصا بعد إصدار قانون الاستثمار أخيرا)، فإن طاقته الممكنة لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتحل محل وارداته، كفيلة بتقليل عجزه الخارجى، وتقليل حاجته لمزيد من الاستدانة، مع مساعدته فى سداد ديونه المتراكمة.
وعموما، فإذا كان همنا جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن لدينا من الأسباب ما يدعونا للتفاؤل بقدرة الاقتصاد المصرى على إنجاز ذلك، شريطة أن يتبنى استراتيجيات مناسبة لجذب هذه الاستثمارات. ويمكن لاستراتيجية «الاستثمار محل الواردات»، المقترحة فى الفقرات السابقة، أن تلعب دورا هاما فى هذا المضمار!.
-----------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، 13-6-2017.