أثبتت تطورات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، منذ غزو العراق في عام2003، وبشكل أكثر جلاء وإلحاحا، عقب الانتفاضات الشعبية، والاضطرابات والصراعات الحادة، التي تفجرت في المنطقة منذ عام 2011، أن الدولة لا تزال مهمة وأساسية لأداء عدد من الوظائف الجوهرية التي لا يمكن لأي من الفاعلين الآخرين المتزايدة أدوارهم في الساحة الدولية النهوض بها.
أدى انهيار عدد من دول الشرق الأوسط التقليدي، مثلما حدث في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، وعدد آخر من الدول المتاخمة للمنطقة، مثلما هو الحال في أفغانستان ومالي، إلى مخاطر أمنية جمة، أبرزها خلق مناطق فراغ أمني منحت فرصا غير مسبوقة لانتشار التنظيمات الإرهابية، وعصابات الجريمة المنظمة، وتعزيز أنشطتها، وقدرتها على التجنيد، والحشد، والتخطيط، واستيعاب أي ضربات تستهدفها، فضلا عن إثارة أزمات اجتماعية وإنسانية حادة أطلقت موجات متتالية وكثيفة من المهاجرين واللاجئين. ولم يتوقف أثر هذه المخاطر وتداعياتها على حدود الإقليم، بل باتت تلك الآثار والتداعيات أزمات ذات أبعاد ما وراء إقليمية، تحمل المخاطر في بعض الأحيان إلى أربعة أقطار المعمورة بأسرها. المفارقة البارزة، في هذا الإطار، أن هذا الانهيار، وتلك الأزمات أتيا عقب محاولات تدخل عديدة، ومتنوعة الأدوات والأبعاد، قام بها أعضاء الجماعة الأورو-أطلسية لمواجهة ما سموه، وروجوا له، بعدّه فشلا للدولة في منطقة الشرق الأوسط.
بدأت محاولات التدخل تلك بشكل جلي وفج في وقت مبكر، عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001، وتحديدا مع غزو الولايات المتحدة الأمريكية لكل من أفغانستان والعراق بدعوي محاربة الإرهاب، من خلال القضاء على الدولة الفاشلة، بحسب التصنيف والرؤية الأمريكيين، وإعادة بنائها. لكن على الرغم من ذلك، فإنه لا يمكن إغفال أن المحاولات الأمريكية لإحداث تغيير في بنية الدولة في الشرق الأوسط بدأت في وقت مبكر مع توقيع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قانون تحرير العراق (Iraq Liberation Act) في 31 أكتوبر 1998،الذي نص صراحة على العمل من أجل إحداث تغيير سياسي في العراق، وهو القانون الذي يتجاوز في غاياته حدود سياسة الاحتواء المزدوج التي اتبعتها إدارة بيل كلينتون الثانية إزاء كل من العراق وإيران. واتسع نطاق أهداف التغيير السياسي، الذي تستهدفه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مع إطلاق كولن باول، وزير الخارجية في الإدارة الأولي للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وذلك خلال كلمة ألقاها في مؤسسة هريتاج Heritage Foundation، أحد أهم مراكز التفكير المحافظة في الولايات المتحدة، ومن أوسعها نفوذا في صنع السياسة العامة الأمريكية، خاصة في ظل الإدارات الجمهورية. استهدفت تلك المبادرة دعم ما سمته إصلاحات سياسية، واقتصادية، واجتماعية في دول الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، من خلال دعم الأفراد والجماعات، بعيدا عن الإطار الرسمي للدولة.
تكشف تلك الوقائع، وغيرها الكثير، عن أن إحداث تغيير جوهري في بنية الدولة في الشرق الأوسط، خاصة الدول العربية، كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية، منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، وإن بدرجات متفاوتة، وأدوات متنوعة ومتباينة. وكانت الحجة الرئيسية المعلنة وراء كل تلك المبادرات، والمشاريع الهادفة لتغيير بنية الدولة العربية، تحديدا في الشرق الأوسط، هي معالجة ما عدّته الولايات المتحدة وحلفاؤها عوامل فشل في بنية تلك الدولة، خاصة فيما يتعلق بقدرتها على الاستيعاب السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي لجميع مكوناتها. لكن المؤكد أن هذه الخبرة الممتدة نسبيا لإحداث تغيير في هيكل الدولة في الشرق الأوسط، تحت مسميات مختلفة، أثبتت فشلها في معالجة جوانب فشل هذه الدولة، ولم تكن في أي من تجاربها، وبكل أنماطها، سواء الناعمة، كما تبدت في مبادرات الإصلاح، أو الخشنة، كما تجسدت في خبرات التدخل العسكري، خبرة فعالة أو كفئا. بل إنه يمكن، بدرجة كبيرة من التحقق، ملاحظة أن خبرة التدخل تلك أسهمت في مزيد من إضعاف الدولة في الشرق الأوسط، وإدامة فشلها، وإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة أكثر حدة، وأخطر أثرا، باتت تهدد ليس فقط بانهيار الدولة في الشرق الأسط، بل كذلك مجمل الاستقرار والأمن، إقليميا وعالميا على السواء.
وبالنظر إلى أن أغلب تلك المبادرات والمشاريع، التي تذرعت بمحاولة إصلاح الدولة في الشرق الأوسط، وتجنب فشلها، نبع، مثلما كان الحال تاريخيا في تجارب إعادة البناء السابقة، من داخل الجماعة الأورو-أطلسية، والمؤسسات الدولية وثيقة الصلة بها، ولم ينبع بالأساس من داخل الدولة في الشرق الأوسط، فإنه يتعين البحث، من جهة، في أسباب فشل تلك المحاولات، خاصة إذا ما قورنت بخبرات إعادة بناء الدولة التي انتهجتها هذه الجماعة في مراحل سابقة، سواء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في كل من ألمانيا واليابان، أو عقب نهاية الحرب الباردة في شرق أوروبا، ومن جهة أخري في تحديد عوامل الفشل المستعصي على الإصلاح/إعادة البناء في الكثير من دول الشرق الأوسط لبيان ما تستلزمه إقالة تلك المنطقة من عثراتها متعددة الأبعاد التي باتت تهدد ليس فقط صلاحيتها، كفاعل دولي إيجابي، ولكن حتى الوجود المادي والقانوني للكثير من دولها، وهو الخطر المرجح امتداده إلى دول أخري عديدة في المنطقة، ما لم تعالج جذوره المنتجة لحالة الفشل المستعصية تلك.
سياقات التدخل وخطاب المخاتلة:
يكشف الاستعراض السريع السابق لمحاولات القوى "الغربية"، بقيادة الولايات المتحدة، لإحداث تغييرات جوهرية في بنية الدولة في الشرق الأوسط، تحت مسمي إعادة البناء، أنها كانت سابقة لما سمي "الحرب على الإرهاب". كما تكشف وقائع التدخل وسيرورته، منذ بداياته المبكرة، عن أنه لم يكن يستهدف بالفعل، خاصة في مراحله الأولي، بؤر الإرهاب الحقيقية، الذي كان يتمدد وتتنامى قوته في أفغانستان طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين، في ظل حالة جلية من فشل الدولة، بقدر ما كان يستهدف دولا محورية في إعادة تعريف المصالح الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، مثلما كان الحال بالنسبة للعراق، الذي رغم وجود نظام استبدادي على قمة السلطة فيه، فإنه لم يكن من الممكن وصفه بالدولة الفاشلة إلا في حدود تأثيرات العقوبات الدولية، والحصار الضار الذي تعرض له منذ غزوه الكويت في أغسطس 1990.
وبالمثل، فإن برامج دعم أفراد وتنظيمات خارج إطار البناء الرسمي لمؤسسات الدولة، التي تم تطبيقها عقب هجمات 11 سبتمبر 2011، في إطار مبادرة باول للشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، لم تستهدف بدورها الدول الأكثر فشلا، بل والمنهارة بالفعل عبر المنطقة، مثل الصومال، أو دول إفريقيا جنوب الصحراء المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بقدر ما استهدفت دولا محورية في الشرق الأوسط، مثل مصر، وتونس، والمغرب، وهي دول، رغم الطبيعة التسلطية لأنظمتها الحاكمة في هذا التاريخ، لم يكن من الممكن تصنيفها ضمن الدول الفاشلة، أو العاجزة عن بسط هيمنتها على كامل إقليمها، وممارسة سيادتها عليه، أو المعرضة لمخاطر جسيمة، جراء القصور الوظيفي لبعض مؤسساتها. وبالتالي، يبدو أن استخدام فشل الدولة لتسويغ محاولات التدخل الناعمة، أو حتى الخشنة، التي قامت بها الجماعة الأورو-أطلسية لإحداث تغييرات جوهرية في هيكل السلطة في عدد من دول الشرق الأوسط، لم يكن في أفضل الأحوال إلا خطاب مخاتلة يُستخدم شعارات الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي للتمويه على أهداف أخري تندرج ضمن سياسة متواصلة لإعادة الهندسة الإقليمية، قد تختلف في أدواتها، وفي ومداها، لكن لا تختلف في جوهرها، وهو إعادة تعريف الشرق الأوسط، ورسم خرائط النفوذ فيه بما يتوافق مع مصالح القيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي.
وفي هذا الإطار، يمكن تحديد أبرز خصائص سياق خطاب الإصلاح/إعادة البناء في الشرق الأوسط، الذي تم إطلاقه من قبل الجماعة الأورو-أطلسية تحت القيادة الأمريكية، فيما يأتي:
1- ارتبط نقل مفاهيم الدولة الفاشلة وإعادة البناء إلى فضاء التفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط بمرحلة إعادة هندسة الولايات المتحدة لحضورها في المنطقة. ومع تباين الأدوات المستخدمة في هذا السياق بين الإدارات الديمقراطية، التي غلب عليها استخدام أدوات السياسة الناعمة، (غير العنيفة وغير العسكرية)، أو الجمهورية التي غلب على خبرة إدارتي جورج بوش الابن توظيفها الأدوات العسكرية، فإن أهداف إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية الأساسية تمثلت في:
أ- خفض عبء دعم الحلفاء التقليديين من الحكام العرب وحمايتهم، بعدما تراجعت أهميتهم كثيرا في النسق الإدراكي الأمريكي في ظل "أوهام" انتهاء التنافس القطبي على مقدرات المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وتعزز هذا الإدراك مع هجمات 11سبتمبر 2011 التي تم تفسيرها، بشكل قاصر، بعدّها مجرد نتيجة مباشرة لدعم الولايات المتحدة لهؤلاء الحكام، وليس جراء مجمل سياساتها وحضورها في "الفضاء الإسلامي" الذي تتصوره وتستهدف تحقيقه تيارات الإسلام السياسي، بأجنحتها وتنظيماتها المختلفة.
ب- إعادة تعريف المنطقة لتسع باكستان وأفغانستان في إطار ما عُرف بـ "الشرق الأوسط الكبير" الذي يستهدف بالأساس، من جهة، محاولة عزل الدولتين ذواتي الأغلبية المسلمة، ودمجهما في الفضاء الشرق الأوسطي وصراعاته، وليس فضاء جنوب آسيا الذي أرادته السياسة الأمريكية خلوا من تأثيرات منظور "الصراع مع الإسلام"، من جهة أخري. ويقع في القلب من محاولة خلق هذالارتباط الهيكلي تعزيز ارتباط دول الخليج العربية بكلتا الدولتين، ومحاولة موازنة القوة العسكرية الإيرانية بنظيرتها الباكستانية، وبالفوضى الضاربة في أفغانستان. ويؤكد هذا التوجه سمت ترسيخ التباين الحضاري المؤسس دينيا، والذي أطر فكريا لمبادرات إعادة البناء في الشرق الأوسط في النسق المعرفي الغربي.
جـ - خلق فضاء صراعات جديد يهمش من محورية القضية الفلسطينية، بعدّها القضية المركزية التي تأسس حولها مفهوم السياسات الشرق أوسطية طوال ما يزيد على نصف قرن حتى مطلع الألفية الجديدة.
2- تأطير مبادرات الإصلاح، وإعادة البناء ضمن فكرة "صراع الحضارات" التي تجسدت فيما وراء الإنتاج المعرفي للنخبة السياسية الأمريكية، مثل صامويل هنتنجتون وبرنارد لويس، على مستوى رسم خرائط المنطقة، مثلما سلفت الإشارة، وكما تجلي في إعادة تعريف وظيفة حلف شمال الأطلسي، خلال قمة واشنطن في عام 1999، من الدفاع عن حدود دول الحلف للدفاع عن مصالحه، وهو التغيير الذي تجلي في محاولة تعزيز حضور الحلف في هلال الأزمات الممتد من وسط آسيا وحتى شمال إفريقيا.
ويختلف هذا التأطير الحضاري عن التدخل الأورو-أطلسي في شرق أوروبا، والذي دفع باتجاه تعزيز الصراعات داخلها، خاصة في يوغوسلافيا السابقة، في إطار من الصراع على الجغرافيا مع بقايا الأنظمة والنخب، ذات الانتماءات الشيوعية، أو الارتباطات المصلحية، أو العرقية مع الإمبراطورية الروسية المريضة في ذلك الوقت. وإذا كان قد تم استخدام الدين في بعض تلك الصراعات، فقد كان ذلك في إطار تكتيكي مرحلي، لم يهدف إلى خلق فاصل، أو عازل ثقافي وقيمي مع تلك المنطقة التي واكب محاولة إعادة بناء دولها دمجها في الفضاء السياسي الأوروبي، والفضاء الأمني الأورو-أطلسي.
كان الأمر على خلاف ذلك في التعاطي مع الشرق الأوسط، الذي كان عزله حضاريا أحد الأهداف البارزة للسياسة الأمريكية منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين. وهو الهدف الذي تعزز مع ازدياد قدرة الولايات على التحرر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط. وبقدر ما أتاح هذا التأطير الحضاري درجة مرتفعة نسبيا من القدرة على حشد الحلفاء، خلف سياسات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية في الشرق الأوسط، فإنه قلص كثيرا من فرص نجاح هذه السياسات في واقع بات معاديا بشكل تام للحضور الغربي، على أسس ثقافية وقيمية عميقة بعدما راجت هذه المقولات عبر المنطقة، وفي وجدان سكانها، ووظفتها تيارات الإسلام السياسي المحافظة بشكل مكثف لتعزيز حضورها على حساب تيارات الليبراليين والعلمانيين، وأنصار العقلانية.
سراب الدولة في الشرق الأوسط وإعادة إنتاج فشلها:
حملت هاتان الخصيصتان بذور فشل محاولات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية. فمن جهة، خلق التوجه الأمريكي لإعادة الهندسة الإقليمية، والتحرر من عبء الحلفاء التقليديين حالة من عدم الثقة، بل والعداء، لدي كثير من الحكام العرب النافذين في المنطقة، قبل انتفاضات ما تمت تسميته، في إطار الترويج الإعلامي للتغيير السياسي في المنطقة، "الربيع العربي". وتجلي هذا العداء في عمل دول عربية رئيسية على إفشال المشروع الأمريكي لإنتاج نموذج للتغيير السياسي في المنطقة انطلاقا من العراق. ومن جهة ثانية، أتاح إطار الصراع الحضاري لتيارات الإسلام السياسي استغلال محاولات إعادة الهندسة الأمريكية في المنطقة لتعزيز حضورها، بعدّها المدافعة عن قيم المنطقة وثقافتها في مواجهة هذا الحضور الأمريكي، وفي مواجهة الحكام من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين على السواء.
وتصورت إدارة جورج بوش الابن أن العراق، الذي أنهكته العقوبات، قد يمثل قصب السبق بالنسبة لطموحاتها من أجل إعادة الهندسة الإقليمية. وافترضت السياسة الأمريكية أن إحداثها تغييرا سياسيا مواتيا وخاضعا في العراق، الذي كان مستقرا إثنيا تحت حكم صدام حسين، ولم يشهد بروز تيارات سلفية جهادية محافظة، رغم هزيمته الساحقة في حرب تحرير الكويت، وسنوات الحصار الطويلة، سيمثل حجر الدومينو الذي يمكنه إطلاق موجة تغيير سياسي مدار أمريكيا عبر المنطقة. وواجه التدخل الأمريكي كلا جناحي العداء اللذين استحثتهما إعادة الهندسة المتصورة أمريكيا، وهما الأنظمة الحاكمة القلقة على وجودها، والإسلام السياسي، الذي وجد أكثر تياراته محافظة فرصة غير مسبوقة لحشد الأنصار وتعبئتهم، ليس في العراق فحسب، بل عبر المنطقة بأسرها، من خلال استحضار شعارات الصراع المقدس.
مشهد مماثل حدث قبلا في أفغانستان، وكانت محصلة أولي محاولات إعادة بناء الدولة في الشرق الاوسط بشكل مباشر، من قبل الولايات المتحدة، فشلا كاملا. فشلا أطلق حجر دومينو بالفعل في السياسة الإقليمية، لكنه حجر دومينو الفوضى، وليس إعادة بناء ممنهجة للدولة في الشرق الأوسط. وسرعان ما انتقلت السياسة الأمريكية بمنطق نفعي تام خلو من أي التزام أخلاقي بما ادعته محاولة لحماية المنطقة من عوامل الهشاشة التي تودي بدولها إلى الفشل، وخلو حتى من أي التزام بالقيم الليبرالية المؤسسة للدولة الأمريكية بالمعني الشتراوسي، نحو محاولة إدارة ما سمته وزيرة الخارجية الأمريكية، إبان إدارة جورج بوش الابن الثانية، "الفوضى الخلاقة"، وليس إدارة البناء، مثلما كان التصور الموهوم مسبقا.
ومن دون الاستغراق في تفاصيل ما حدث منذ ذلك الحين وحتى اليوم، حيث لا يتسع المقام لمثل هذا التفصيل، بات يبدو جليا أن الرهان الأمريكي، في ظل عملية إدارة الفوضى تلك، على بعض تيارات الإسلام السياسي، التي وسمها الخطاب السياسي الأمريكي، وخطابات عدد مهم من حلفائها، لا سيما بريطانيا وألمانيا، بـ "المعتدلة"، لم ينتج إلا مزيدا من تردي الدول المأزومة في المنطقة في هاوية الفشل، وإعادة إنتاجه، وإدامة العوامل المحفزة لفشل دول أخري عبر الإقليم، من دون اكثراث حقيقي من قبل الجماعة الأورو-أطلسية بإعادة بناء الدولة في المنطقة فعليا، بل بمجرد إدارة الصراع على السلطة، واحتواء التهديدات، وإبقائها داخل المنطقة لتحترق بها دولها.
ولعل كلمة السر في فشل محاولات إعادة البناء، التي بادر المعسكر المنتصر في الحرب الباردة، فضلا عن الخصيصتين السالف توضيحهما، إنما تكمن في حقيقة أن ظاهرة الدولة التي تعرفها المنطقة هي في جزء كبير منها تندرج في إطار ما يمكن وصفه بـ "سراب الدولة"، وليس الدولة الحقيقية.
ولتوضيح هذا المفهوم، يتعين أن نستحضر مفاهيم الدولة التي طورت في إطار السيرورة السياسية الغربية. ويمكن أن نحدد ثلاثة اقترابات شديدة الأهمية، طورتها الأدبيات السياسية الغربية لتعريف الدولة. أول تلك الاقترابات هو اقتراب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي يعرف الدولة بعدّها الوحدة القادرة على احتكار العنف، وممارسة الضبط على كامل إقليمها. ويركز هذا الفهم على الركيزة الأساسية لوجود الدولة. بينما يذهب الاقتراب الثاني، الذي يقدمه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، خطوة أبعد، وهو يقرر أن "الدولة هي محصلة عملية تركيز مختلف أنماط رأس المال: رأس المال الإكراهي (الجيش والشرطة)، ورأس المال الاقتصادي، ورأس المال الثقافي أو المعلوماتي، ورأس المال الرمزي. يمنح هذا التركيز الدولة نوعا من رأس المال الفريد، الذي يمنحها سلطة على كل أنماط رأس المال الأخرى وحائزيها". وبحسب هذا الاقتراب الاجتماعي، تعد الدولة بحسب، بورديو، تجسيد لمجموع رءوس الأموال التي تجعلها وحدة تتفوق على كل حائزي القوة الآخرين.
يركز كلا الاقترابين السابقين على الطبيعة الإكراهية لوجود الدولة، في حين يذهب الاقتراب الثالث والأخير خطوة أبعد من الاقترابين السابقين، حيث يحاول دمج القبول الطوعي للمجتمع بحقيقة وجود الدولة واستمرارها. يعكس هذا الاقتراب تعريف أحد أبرز دارسي الأمن الدولي، باري بوزان، للدولة، حيث يقول "توفر السيادة العامل الجوهري الذي يميز الدولة عن غيرها من الوحدات الاجتماعية الأخرى. الدولة هي الصمغ الذي يربط حزمة الإقليمي-السياسي-الاجتماعي معا".
وإذا كان ممكنا أن نجد الدولة بالمعني الإكراهي الاحتكاري الذي قدمه الاقترابان الأولان في عدد من الدول في الشرق الأوسط، فإن الدولة، بمعناها الأخير الذي يقدمه بوزان، هي ظاهرة نادرة الوجود في الشرق الأوسط. وباستثناء إسرائيل التي تمثل دولة عنصرية الطابع، فإن أبرز نماذج دولة بوزان في الشرق الأوسط هي الدولة المصرية التي تكونت لحمتها القومية عبر تاريخ ممتد من التفاعلات بين البشر، والأرض، والسلطة بشكل لا يتيح أي انفصال بينها. ولعل هذا الميراث التاريخي هو فقط الذي يمكنه أن يفسر بقاء تلك الدولة عبر كل الأزمات الحادة التي جابهتها، وعبر قدرتها على مواجهة حالات الانهيار غير المسبوقة، التي شهدتها المنطقة في السنوات الست الأخيرة، رغم الوضع الاقتصادي المأزوم للدولة، ومحاولات استنزافها خارجيا وداخليا، وتعرض قدرتها على الإكراه لقدر غير بسيط من التآكل، في ظل أزمتها الاقتصادية الممتدة. ويمكن أن نلمح بعض مقومات دولة بوازن تلك، بدرجات متفاوتة، في كل من المغرب، وإيران، وتركيا. عدا ذلك فإن، أغلب دول المنطقة لا تمثل، وفقا لهذا المعني سوي حالة "سراب الدولة"، وهي حالة لا تتحقق فيها هذه اللحمة بين المجتمع والسلطة، والإقليم بعيدا عن الطابع الإكراهي، أو الاحتكاري للثروة.
وفضلا عن حداثة نشأة الدولة في الشرق الأوسط، فإن ما يمكن أن يفسر العجز عن الانتقال بها من الدولة المصطنعة إلى دولة قومية حقيقية بالمعني الإدماجي السابق الإشارة إليه، هو هيمنة نسق الإقصاء في بنائها على حساب خلق بوتقة صهر تستوعب على الأقل الجزء الأكبر المتنوع من سكانها. وكانت لعنة الموارد وطبيعتها الريعية، فضلا عن التدخلات الخارجية، عاملين أساسيين في تكريس نسق الإقصاء في بناء الدولة في الشرق الأوسط، لكن لا يمكن إنكار أثر الاستسلام النخبوي لكلا العاملين في إدامة هذه الحالة وتكريسها.
في هذا الإطار فقط، يمكن فهم لماذا تديم مبادرات إعادة البناء الأورو-أطلسية حالة فشل الدولة في المنطقة، وتهدد بانتشارها، حال تعرض القدرة الإكراهية أو الاحتكارية-الرعوية للدول التي لا تزال تحتفظ بصورة الاستقرار إلى التآكل؟. ويمكن تحديد أبرز عوامل قصور تلك المبادرات عن تجاوز هذه الحال فيما يأتي:
أ- تركيزها على فكرة التغيير السلطوي بعدّه الركيزة الأساسية لإعادة البناء، بينما تغيب عن بنية الدولة الفعلية المقومات الإدماجية الرئيسية من اقتصاد حديث لا يرتهن للمنطق الريعي، وعقد اجتماعي توافقي لا يمكن أن تخلقه إلا إرادة واعية حازمة وقوية من قبل قادة الرأيأي والنخب المؤثرة، أو "ضريبة دم" شديدة التكلفة بدأت المنطقة في سدادها بالفعل.
ب- الرهان على تيارات الإسلام السياسي كبديل للأنظمة الحليفة التقليدية، بعدّ تلك التيارات الأجدر على حشد الجماهير. لكن هذه الرؤية تتغافل عن حقيقة مهمة دفعت السياسة الأوروبية ثمنا باهظا لتجاوزها، إبان الحروب الدينية، وهي أن تيارات السياسة الدينية لا تعدّ الدولة، بمفهومها القومي القائم على التنوع، إلا عرضا، فاسدا يتعين تجاوزه. وبالتالي، فإن إحلال هؤلاء محل النخب الحاكمة التقليدية لا يعني فقط إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمت القداسة، ولكن يعني أيضا، وبشكل أكثر خطورة، إهدار معني الدولة القومية بتنوعها، مما يهدد بمزيد من حالات الصراع الأهلي، وانهيار الدول، وانتشار التطرف والإرهاب.
جـ - القبول بمنطق تقسيم الدول القائمة، وإنتاج خريطة "وستفالية" جديدة للدولة في المنطقة على أسس إثنية، لا يمثل إلا هروبا من مواجهة عوامل الأزمة الحقيقية التي أسهمت سياسات المعسكر الأورو-أطلسي في تكريسها، إبان الحرب البادرة، من خلال دعم الأنظمة التسلطية، وحفزت على تفجيرها بعد انتهاء الصراع القطبي. كما يهدد مثل هذا القبول ليس فقط بجعل المنطقة موئلا دائما للتطرف والإرهاب، ولكن أيضا بدفعها نحو حالة مستدامة من حروب الوكالة، خاصة مع بروز العديد من قوى المراجعة في النظام الدولي التي ترتبط مصالحها بشكل وثيق ومتنام بالمنطقة، خاصة روسيا والصين.
لا يتعين أن يعيد التاريخ ذاته، مثلما ذهبنا آنفا عند الحديث عن ضريبة الدم التي بدأت المنطقة في دفعها بالفعل. ويمكن لحالة مراجعة نخبوية جذرية من قبل السلطات الحاكمة في كثير من دول المنطقة لمقدرات وجودها أن تيسر السبيل أمام فتح المجال لخلق بوتقة صهر تأخرت كثيرا، لكن لم ينعدم فرص استحضارها، سواء في الدول التي لا تزال قادرة على حفظ درجة من درجات الاستقرار، أو حتى الدول التي عانت ويلات الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة. ويبقي أخيرا تأكيد أن نجاح الدولة المصرية في الخروج من عثرتها التنموية سيمثل نموذجا وطنيا رائدا يمكنه أن يقدم بديلا للمنطقة، ويقودها بعيدا عن مبادرات إدامة فشل الدولة، وهندسة المنطقة على أنقاضها التي تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأورو-أطلسيون.
-----------------------
(*) تقديم ملحق تحولات استراتيجية، " إعادة البناء.. رهانات خروج الدولة في الشرق الأوسط من مأزق الفشل"، مجلة السياسة الدولية، العدد 208، إبريل 2017.
رابط دائم: