تمر أوروبا حاليا بأزمة كبيرة ربما لم تشهد مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. فالاتحاد الأوروبي، الذي كان مضرب الأمثال في كل تجارب التكامل الإقليمي العالمية، معرض للتصدع والانهيار، إذا امتلكت قوى اليمين الصاعدة زمام الحكم في أوروبا، وهي القوى المعادية للاتحاد الأوروبي، والداعية إلي التفكك والانعزال خلف أسوار النعرات القومية الضيقة.
وتكمن خطورة أفكار اليمين الأوروبي، المتصاعد سياسيا ومجتمعيا، في الدعوة للقطرية، ومعاداة أفكار التكامل، وفي مناهضتها للعولمة، ورفض الاستمرار في دفع تكاليفها المتزايدة على الاقتصادات الوطنية، وتسعي لفرض إجراءات حمائية لتقييد حرية التجارة والانتقال، وترفض التوسع في سياسات الهجرة، التي تشكل عبئا على الاقتصاد، وتحرم المواطنين من فرص العمل والحياة الكريمة، وتلفظ كل ما هو غريب وافد إليها، وتدعو لمراجعة السياسات المتعددة الأطراف التي تركز على التضامن الجماعي بين الشعوب في تحقيق المصالح، ومواجهة التحديات المشتركة.
وتكمن خطورتها أيضا في استغلالها لحالة الإسلاموفوبيا في معاداتها للمسلمين في أوروبا، سواء المهاجرون المقيمون في هذه الدول، منذ عقود طويلة، الذين أصبحوا مواطنين فعلا، أو في الوافدين الجدد إليها، سواء للعمل، أو الدراسة، أو في صورة لاجئين.
ويأتي هذا الخطاب اليميني المتشدد في ظل واقع أوروبي مأزوم، حيث تراجعت معدلات النمو، وارتفعت مستويات البطالة، في ظل فشل خطط الإصلاح الاقتصادي في مواجهة الأزمات الاقتصادية المستمرة في الدول الأوروبية، وحدوث حالة من تراجع الثقة في النخب، والسياسات التقليدية، وسيادة حالة من التشكك في سياسات الإدارة الاوروبية في بروكسل، وقبولها لسياسة الباب المفتوح للاجئين، واستيعابها لهجرة غير شرعية ضخمة، حيث استقبلت ألمانيا بمفردها نحو مليون مهاجر ولاجئ خلال عامي 2015و2016، فضلا عن انتشار الإرهاب وتهديده لأمن وسلامة المجتمعات الأوروبية، وفي تشويهه لصورة الإسلام والمسلمين.
وقد وجدت قوى اليمين ضالتها المنشودة في استثمار هذا الواقع الذي يعطي قوة لخطابها المتشدد، الذي يعتمد على إثارة الأبعاد العاطفية، وتأجيج مشاعر الغضب ضد الآخرين. فكان استغلالها لحالة الخوف المرضي من الإسلام المسماة "الإسلاموفوبيا" لمهاجمة المسلمين في أوروبا، وهي في ذلك تسوق مجموعة من الدعاوي والمسوغات، فمنها من تري أن الإسلام هو الخطر الأكبر على قيم "النادي المسيحي"، وعلى الهوية الغربية، وذلك بالنظر إلى زيادة نسبة معدلات مواليد المسلمين المهاجرين، وارتفاع نسبة معدلات الخصوبة لديهم مقابل انخفاض النسب الأوروبية في المجالين، فضلا عن تزايد نسب معتنقي الإسلام من الأوروبيين.
وقد كشفت رسالة النائب الجمهوري في الكونجرس الأمريكي ستيف كينج -التي غرد بها لدعم "خيرت فيلدرز، زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف الهولندي في الانتخابات العامة الهولندية التي جرت في منتصف مارس 2017- عن مقدار القلق من عدم التوازن الديموجرافي في قوله "لا يمكننا ترميم حضارتنا بالأطفال الذين يلدهم الآخرون"، مضيفا أن فيلدرز يفهم أن الثقافة والتركيبة السكانية هي مسألة مصيرية. كما أكد الأخير أن الإسلام لا ينتمي لأوروبا، ولا يجلب إلا العنف والخطر في كل مكان. وقد نجح فيلدرز في جعل الخطاب حول الإسلام في هولندا، وجانب من الرأي العام الأوروبي إقصائيا وصداميا، رافضا "أسلمة" أوروبا.
وفي الإطار ذاته، ذكر هانز توماس تيلشنايدر، النائب عن حزب "البديل لألمانيا" اليميني في مجلس ولاية "ساكسونيا انهالت" المحلي، "أن الإسلام غريب علينا. ومن أجل ذلك، لا يمكن أن ينطبق عليه مبدأ حرية الديانة، مثل المسيحية". ويري غلاة اليمين هؤلاء أن وجود المسلمين يعني زيادة فرص الإرهاب في أوروبا، ويستندون بالطبع إلى كل الحوادث الإرهابية التي شهدتها المدن الأوروبية، مثل حوادث باريس، ونيس، وبروكسل، وميونيخ، وملهي فلوريدا، حيث وجهت أصابع الاتهام للأسف لعرب مسلمين تورطوا بالضلوع في هذه الأعمال الإجرامية.
وهم يرون أيضا أن المسلمين يعيشون في "جيتوهات" منعزلة، ويرفضون الاندماج في المجتمعات الأوروبية، ويتصرفون على نحو غير مألوف للمجتمعات الأوروبية. في حين أن أغلب المسلمين مندمجون في هذه المجتمعات باستثناء أقليات صغيرة لا تزال لديهم مشكلة في مسألة الاندماج، ولابد أن تكون هناك حلول عملية لإشكاليات الاندماج والتعايش.
وواقعيا، تتسبب هذ المقولات في وجود أفعال عدوانية على الأرض، من منع للمآذن، إلى الطعن في نبي الإسلام، وإلى حرق نسخ القرآن، ومنع للحجاب، إلى الاعتداء على المساجد، والتضييق عليها، فضلا عن تدنيس مقابر المسلمين، وصولا إلى شن هجمات ضد الجاليات المسلمة، وإلقاء القنابل الحارقة عليهم، وتوجيه الإساءت اللفظية ضد النساء اللواتي يرتدين الحجاب، وتنفيذ اعتقالات عشوائية، وسن قوانين للنيل من حرياتهن وحقوقهن، وتعقيد إجراءات الحصول على رخص إنشاء المساجد والمراكز الإسلامية، والتمييز ضد المسلمين في فرص وأماكن العمل، وفي المدارس، وترويج صورة سلبية عن المسلمين في وسائل الإعلام، بما يتناقض وجوهر الدين الحنيف القائم على الرحمة، والتسامح، والتعاون مع الآخرين.
والغريب أن "الإسلاموفوبيا" لم تعد وسيلة للحركات المتطرفة، مثل الحركة الألمانية "أوربيون وطنيون ضد أسلمة أوروبا"، المسماة "بيجيدا"، بل صارت اقتناعات لرؤساء وقادة، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي فاجأ الأوروبيين قبل الآخرين بتصريحات نارية غريبة، تقوم على التحذير من اللاجئين بوصفهم حاملي ثقافة جديدة مختلفة عن شعوب القارة العجوز. تلك الثقافة الإسلامية التي رآها أوربان ستجتاح دول أوروبا تحمل في طياتها تهديدا لشعوب أوروبا المسيحية، الذين سيغدون غرباء في أوطانهم بعد عقود.
لكن هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها بقوة: هل هناك علاقة سببية بين تنامي القوى اليمينية والقومية والمتطرفة في أوروبا، ووجود حالة الإسلاموفوبيا؟ وما هي حقيقة دعاوي اليمين ضد المسلمين؟ وما هي خطورتها على أوروبا وعلى الإسلام، وعلى الأمن والسلام العالمي؟
الحقيقة التاريخية تؤكد أن نهضة أوروبا قامت أساسا على إسهامات العلماء العرب المسلمين في العصور الوسطي، كما أسهم المهاجرون العرب والمسلمون في العصر الحديث في عمليات التحديث والتقدم الغربي، وتعايشوا مع المجتمعات الغربية في هدوء، ولم يكونوا أبدا إرهابيين وقتلة، ولم يكونوا لاجئين فارين، بل كانوا علماء، ومفكرين، وصناع حضارة.
وتاريخيا، يعود أول استعمال لمفهوم "الإسلاموفوبيا" إلى الحقبة الاستعمارية من قبل علماء اجتماع فرنسيين، حيث استخدم هذا المفهوم لوصف رفض جزء من الإداريين الفرنسيين للعمل في المجتمعات المسلمة، التي كانوا يتولون إدارة شئونها في زمن الاحتلال، لتنفيذ المهام الإدارية والسياسية المكلفين بها.
وقد تجذر هذا المفهوم في المجتمعات الغربية مع وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة، حيث سعي اليمين المتطرف إلى الاستفادة من المناخ الدولي المترتب على هذه الأحداث في تكريس الخوف من الإسلام والمسلمين، وهي التي وفرت لليمين المتطرف خطابا مسموعا عوضه عن الضعف الذي يعتري خطابه السياسي.
ومع حدوث الأزمات الاقتصادية في أوروبا، جعل اليمين المتطرف من الهجرات القادمة من شمال إفريقيا والشرق الأوسط سببا للأزمة، مدعيا أن المهاجرين يزاحمون الأوروبيين الأصليين في الحصول على فرص العمل، والحياة الكريمة.
وقد أثارت الهجمات الإرهابية في أوروبا، التي تبناها مسلمون متطرفون ينتمون لتنظيمات متطرفة مثل "داعش"، غضب المجتمعات الأوروبية، وأعطت فرصة كبيرة للمتطرفين الأوروبيين لتوجيه الاتهام للإسلام والمسلمين. كما أسهمت دعاوي اليمين في تشوية صورة الإسلام والمسلمين، وجعلهم محلا للاستهداف، والاعتداء عليهم.
لكن الإرهاب لاوطن له ولا دين، وقد عايشت أوروبا الإرهاب، حيث قتل نحو 5819 شخصا في أوروبا الغربية بين عامي 1970 و2000 نتيجة أعمال إرهابية لمجموعات قومية أو ثورية اجتماعية، مثل الجيش الأيرلندي المحظور، أو حركة "إيتا"، أو جماعة الجيش الأحمر الألمانية. وفي الوقت ذاته، قتل نحو 61 شخصا فقط، جراء الإرهاب المنسوب للمسلمين.
كما أن ظهور الحركات القومية واليمينية في أوروبا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، مثل النازية والفاشية، لم يكن مرتبطا بالإسلام مطلقا بقدر ما كان مرتبطا بصعود نعرات قومية تسببت لأوروبا في ويلات الحرب العالمية الثانية.
من الناحية الاقتصادية، كان العالم يشهد أزمة مالية كبيرة منذ عام 2007، خاصة أوروبا والولايات المتحدة، وهذا موضوع أكبر بكثير من هجرة متزايدة تطلبها هذه الدول وتصر عليها. والمفارقة أن اقتصاد ألمانيا قد تحسن أداؤه، وارتفع معدل نموه بشكل كبير في العام الماضي، رغم استيعابها مليون لاجئ في العام ذاته، كما تعافي الاقتصاد الهولندي، رغم إدعاءات اليمين.
وليس هناك أدني شك في أن تسييس حالة الإسلاموفوبيا من قبل اليمين الأوروبي، من أجل مصالح انتخابية ضيقة، قد يخلق حالة من الاحتقان الطائفي في قارة الحريات، ربما تؤدي إلى حدوث أعمال عدوانية تجاه الإسلام والمسلمين، وربما تنذر بأعمال عنف مضاد من قبل الإرهابيين المنتمين زورا للمسلمين، أو من قبل مسلمي أوروبا دفاعا عن أنفسهم، بما يزيد الوقيعة والانقسام الحاد بين الطرفين، وهو المطلوب، وكأن الإسلام قد وقع بين مطرقة استغلال وافتراء اليمين الأوروبي، وسندان التطرف لإرهاب المتأسلمين.
وربما تقود هذه المهاترات والافتراءات لحدوث مواجهات فكرية عدائية بين المسلمين والغرب، لا طائل منها، ولا مصلحة لأحد فيها سوي المتطرفين من كل جانب.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن الحديث هنا ينصب على قوى اليمين المتطرف في أوروبا، وهي هامشية عنصرية لا ثقل لها، وبعيدة عن مراكز صنع القرار. أما أغلب الشعوب والنخب الأوروبية، فهي تولي الاحترام الكامل للإسلام والمسلمين على مدي تاريخ طويل. وقد أعلنت المستشارة الألمانية في حديث لها أن الإسلام جزء من ألمانيا، وأكدت ضرورة إجراء حوار أفضل بين الأديان.
ويبدو أن صعود اليمين المتطرف لن يستمر طويلا. ويكفي الإشارة إلى رفض جميع الأحزاب الهولندية التعاون مع اليميني فيلدرز، رغم أنه حل ثانيا في الانتخابات، ولديه عشرون مقعدا، الأمر الذي يحرمه فعليا من المشاركة في الحكومة الجديدة. كما هُزم أنصار اليمين في الانتخابات العامة بالنمسا، فضلا عن أن الدستور الألماني يضع الكثير من القيود لمنع وصول أي حزب يميني إلى الحكم.
الخلاصة أن العالمين الأوروبي والإسلامي يشهدان أزمة كبيرة، وعليهما التوحد والتعاون في مواجهة التطرف السياسي والديني لدي الجانبين. فلا يمكن السماح لهؤلاء المتطرفين بتدمير هذه العلاقات الراسخة. وعليه، فقد تكونت جبهات من القوى التقليدية المحافظة في أوروبا والمعتدلة للوقوف صفا واحدا في مواجهة اليمين. كما أن اختيارات الشعوب الأوروبية لا تزال تميل إلى جبهة الاعتدال، رغم تأثير أطروحات اليمين في الشارع الأوروبي.
ولعل زيارة بابا الفاتيكان للقاهرة أواخر أبريل الجاري (2017) قد تهدف، في أحد مراميها، إلى بناء جبهة موحدة في مواجهة التطرف. ولعل الشعار الذي اتخذته مكتبة الإسكندرية لمؤتمرها السنوي هذا العام "متحدون في مواجهة التطرف" هو أبلغ رسالة لما يجب أن تكون عليه استراتيجيات التعاون بين أوروبا والعالمين العربي والإسلامي.