تاريخ النشر: 5 أبريل 2017
أحدثت استقالة ريما خلف، الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، في شهر مارس 2017، أصداء واسعة داخل أروقة المنظمة الدولية وخارجها. فهي المرة الأولى التي يستقيل فيها موظف دولي في ذلك المنصب الرفيع، اعتراضاً على ضغوط تعرض لها من داخل المنظمة ذاتها، بل من الأمين العام شخصياً، لا لأسباب شخصية، وإنما بسبب التقرير الذي أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، "إسكوا"، برئاسة ريما خلف.
إذ أعلن هذا التقرير، بشكل واضح، أن إسرائيل دولة عنصرية بامتياز، وتمارس سياسة "أبارتهايد" مُمنهجة ونظامية. وأعقب ذلك طلب أنتونيو جوتيريس، أمين عام الأمم المتحدة، سحب التقرير، مما دفع "خلف" إلى الاستقالة من منصبها الدولي.
نفى جوتيريس أن يكون قراره بسحب التقرير بسبب مضمونه، وإنما لأخطاء إجرائية في نشره. إلا أن إصراره على سحب التقرير ودفعه "خلف" إلى الاستقالة يكشفان عن أن الأمر لا يتعلق بنواح إجرائية، وإنما بمضمون التقرير الذي يعد أول عمل استقصائي علمي يصدر عن لجنة دولية تابعة للأمم المتحدة، ويتتبع ممارسات إسرائيل العنصرية، استناداً إلى تعريف القانون الدولي لجريمة الأبارتهايد.
عمل غير مسيس:
من الصعوبة بمكان وصف تقرير " إسكوا " بأنه مسيس أو غير محايد، وذلك لأسباب محض قانونية وموضوعية، على رأسها أن الدول الأعضاء في " إسكوا"، وعددها 18 دولة، هي التي طلبت في يونيو 2015 إعداد تقرير حول الممارسات العنصرية الإسرائيلية، أي أن الأمر لم يتم بناء على طلب فلسطيني، أو بمبادرة شخصية من ريما خلف.
وعند إعداد التقرير، وقع الاختيار على اثنين من الخبراء المتخصصين، لا يمكن اتهامهما بالانحياز أو التعاطف مع الفلسطينيين أو العرب، وهما ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي في جامعة برينستون، وفرجينيا تيلي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة جنوب إلينوي.
فضلاً عن ذلك، فإن التقرير ليس الأول من نوعه، فقد سبق إعداد تقارير أثار بعضها أيضاً حفيظة بعض الدول، كان منها تقرير صدر عن "إسكوا" في نهاية 2016 ينتقد الأوضاع السياسية في بعض البلدان العربية، وحمل عنوان " الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل"، الأمر الذي ينفي كلية انحياز التقرير الأخير أو " إسكوا" أو ريما خلف ضد إسرائيل. فالجانب العربي، الذي يُفترض أن التقرير الأخير جاء لمصلحته، هو نفسه تعرض لانتقادات شديدة في التقرير السابق مباشرة. وكانت ردود الفعل العربية أيضاً مشابهة لإسرائيل، برغم اختلاف طبيعة ومضمون التقريرين.
إضافة قانونية:
فضلاً عن البعد السياسي المهم لإدانة إسرائيل، وكشف ممارساتها في المنظمات والمحافل الدولية، فمن شأن تقرير "إسكوا" أن يضيف إلى السجل الأسود لإسرائيل في انتهاك القانون الدولي والمواثيق المعمول بها عالمياً. حيث يمثل التقرير توثيقاً قانونياً بالأدلة والوقائع لحالة تمييز عنصري بدأت قبل سبعة عقود تقريباً، ولا تزال مستمرة.
والمغزى المهم في هذا التوثيق الجديد أنه يوفر أساساً يتيح ملاحقة إسرائيل قانونياً، سواء أمام المحاكم الوطنية (كما حدث في بلجيكا، وبريطانيا ودول أخرى بعد اجتياح غزة الأخير)، أو أمام المؤسسات القضائية الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية.
بل إن التقرير تضمن توصية تطالب الدول الأعضاء في "إسكوا" بتبني تلك الخطوة. وبرغم عدم انضمام إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن طبيعة الجرائم التي يوثقها التقرير تدخل في الاختصاص الولائي للمحكمة، حتى وإن لم تكن إسرائيل أو الدولة المعنية عضواً فيها.
ثمة إضافة جديدة مهمة حملها هذا التقرير، ذلك أنه غطى الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني كله، وليس فقط أولئك الموجودين داخل الأراضي المحتلة. فقد تناول أيضاً ما يعانيه اللاجئون والمبعدون الفلسطينيون خارج الأراضي المحتلة، في تطبيق عملي لمبدأ أن التمييز العنصري لا يقتصر على الممارسات المباشرة، لكنه يتضمن أيضاً تفتيت الشعب الواحد، والحيلولة دون التئام أوصاله اجتماعياً وديموجرافياً، وهو ما تُمعن فيه إسرائيل بهدف فرض سيطرة عرقية ودينية لليهود على الأرض الفلسطينية، والشعب الفلسطيني.
تاريخ سلبي:
يتصدر الصراع العربي- الإسرائيلي قائمة القضايا والملفات التي عجزت الأمم المتحدة عن حلها، أو حتى إدارتها بعدالة وفعالية. ومن الخطأ تصور أن المنظمة الدولية افتقدت الفعالية أخيرا، أو أصابتها الشيخوخة بعد سبعة عقود على تأسيسها. فالواقع أن هذه المنظمة، التي تأسست بعد فشل عصبة الأمم في تنظيم العلاقات بين الدول ومنع الحروب فيما بينها، لم تحقق سوى نجاحات محدودة في إحلال الأمن والاستقرار الذي يمثل الغرض الأساس منها.
ويجسد الصراع العربي- الإسرائيلي نموذجاً لمحدودية الدور والتأثير، أو بالأحرى العجز الأممي عن التوصل إلى تسوية عادلة للصراع، بدءاً من قرار التقسيم عام 1948، مروراً بسلسلة من القرارات والمواقف الأممية التي لم تساعد على إنهاء الصراع، بل إن بعضها أسهم في تعقيد الموقف، لا تصحيحه، وتثبيت الاحتلال بدلاً من إنهائه.
والمثال الأبرز على ذلك، القرار 242 الذي يطالب إسرائيل بإنهاء الاحتلال. إذ حدث اختلاف حول المدلول السياسي لنص القرار المكتوب باللغة الإنجليزية بين تفسيره بخروج إسرائيل من "أراض محتلة"، أو "الأراضي المحتلة". صحيح أن هذا الاختلاف تجاوزته تطورات الصراع لاحقاً، لكنه يظل مؤشراً على التعقيدات والعراقيل المصاحبة لأداء الأمم المتحدة تجاه إسرائيل منذ عقود.
ومع تطور العمل الدبلوماسي والتقدم في حرفية صياغة القرارات الدولية، لم تعد المشكلة في الثغرات القانونية والفنية لقرارات ومواقف الأمم المتحدة، وإنما في إمكانية صدورها من الأساس، حيث صار من المعتاد أن تتصدى الدول الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، لأي قرار يؤيد الحق العربي، أو الفلسطيني، أو ينتقد إسرائيل بشكل من شأنه التأثير سلباً فى تل أبيب، ولو من الناحيتين القانونية والسياسية فقط.
لذا، لم تتمكن المنظمة الدولية من تبني أي قرار ضد الانتهاكات الإسرائيلية المتعددة للقانون الدولي، والتي شملت حروبا عسكرية شاملة ضد دول عربية، كان نصيب لبنان منها ثلاث مرات (1982، 1996، 2006)، إضافة إلى عمليات الاجتياح المتكررة للأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة، والاستهداف المتعمد لكل من تعده إسرائيل خطراً عليها، سواء من قيادات المقاومة، مثل "أبو جهاد"، وأحمد ياسين، وسمير مغنية، أو من العلماء العرب المتخصصين في المجال النووي بصفة خاصة، مثل يحيى المشد، وسميرة موسى، ومحمد بدير، فضلاً عن الإصرار على تغيير الواقع الجغرافي والديموجرافي للأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصاً في القدس، سواء ببناء المستوطنات، أو تهجير الفلسطينيين، أصحاب الأراضي، والممتلكات الأصليين، وهدم منازلهم.
أمام هذا السجل الزاخر بالانتهاكات، تملك الأمم المتحدة بدورها تاريخاً طويلاً من السلبية والعجز أمام إسرائيل. وليس أكثر من القرارات التي صدرت تدين إسرائيل أو تنتقدها دون أي إلزام أو إجراء فعلي ضدها، إلا القرارات التي لم تتمكن المنظمة من إصدارها أصلاً بفضل الفيتو الأمريكي.
وفي الحالات القليلة التي يتم فيها تمرير قرارات أو مواقف، عبر الجمعية العامة، أو أجهزة أخرى بعيداً عن مجلس الأمن، فإن مردودها يظل سياسياً ورمزياً دون أي تأثير فى سياسات إسرائيل وممارساتها. فهي تضرب عرض الحائط بكل ما يتعارض مع سياساتها وإجراءاتها، بما في ذلك ما يصدر عن مجلس الأمن، كما حدث قبل أكثر من ثلاثة أشهر عندما أصدر المجلس، للمرة الأولى في تاريخه، القرار 2334 الذي يدين بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، خصوصاً القدس.
حيث رفضت تل أبيب القرار شكلاً ومضموناً، وأعلنت أنها ستعده كأن لم يكن، خاصة أنه جاء في سياق لحظة تاريخية لها خصوصيتها، حيث سمحت إدارة أوباما بصدوره في 23 ديسمبر 2016، وامتنعت عن استخدام الفيتو ضده، أي قبل أيام فقط من تولي دونالد ترامب مقاليد الرئاسة الأمريكية رسمياً، فيما بدا وقتئذ عملية توريط للإدارة الجديدة أمام أمر واقع، في سياق السجال والتشاحن الداخلي، الذي نجم عن الفوز الصادم لترامب في انتخابات الرئاسة، مما يعني أن القرار يعد استثناء يؤكد قاعدة العجز الأممي أمام إسرائيل. إلا أن هذا الواقع لا يقلل من أهمية وقيمة تقرير "إسكوا" في إضافة صفحة جديدة موثقة قانونياً إلى سجل إسرائيل، المُتخم أصلاً بالانتهاكات.
للاطلاع على تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، "إسكوا" طالع ملف الـ PDF: