على الرغم من عدم التوصل إلى حلول جذرية لمعظم الصراعات والقضايا المثارة عالميا، خلال عام 2016، فإن العام كان حافلا بأحداث وتطورات جوهرية، سواء فيما يتعلق بمآلات هذه الصراعات والقضايا مستقبلا، أو بالنسبة للدلالات الفكرية والسياسية المرتبطة بتلك التطورات، أيا كانت انعكاساتها الفعلية المباشرة على القضايا والصراعات القائمة.
لا يعني ذلك أن ثمة انقطاعا في السياق العام الحاكم للتفاعلات والتطورات الدولية. فقد مثل عام 2016 محطة مهمة في ذلك السياق، إلا أنه يظل حلقة ضمن سلسلة متصلة تجسد حركة التاريخ على كل المستويات، داخليا، وإقليميا، وعالميا.
شهد عام 2016 تعاظم، أو ربما تبلور ثلاث ظواهر، أولاها: صعود الاتجاهات اليمينية بأفكارها العدائية تجاه الآخر، المنعزلة عنه ثقافيا على الأقل. ثانيتها: اتساع نطاق استخدام القوة المسلحة في إدارة النزاعات والصراعات. وترتيبا عليهما، تأتي الظاهرة الثالثة والأخيرة، وهي تحول الصراعات والمشكلات والقضايا، على اختلاف مستوياتها، إلى ملفات مفتوحة ومتفجرة، دون أفق واضح، لا لحل جذري، ولا حتي لتسويات جزئية.
كلتا الظاهرتين الأولي والثانية ليست جديدة. فالتوجهات اليمينية، أو بالأحري المتطرفة، متجذرة زمنيا لدي بعض الشعوب والمجتمعات. وكثيرا ما انعكس وجودها الاجتماعي والثقافي في اتجاهات سياسية، وصل أصحابها في حالات متعددة إلى سدة الحكم في مراحل زمنية مختلفة.
بالنسبة للظاهرة الأولي، فإن الجديد الذي حملته السنوات القليلة الماضية، وصولا إلى العام الماضي 2016، هو الانتشار الأفقي لتلك التوجهات، أو ما يمكن تسميته "انتقال العدوي اليمينية" إلى عدد متزايد من المجتمعات، خصوصا في نطاق العالم المتقدم. وصاحب ذلك تعمق رأسي أفضي بدوره إلى صعود تيار اليمين سياسيا بفعل آليات الديمقراطية المعمول بها في الدول المتقدمة. ولا يسمح المقام هنا بالتطرق تفصيليا إلى أسباب وجذور تنامي التيارات اليمينية، خلال تلك السنوات. لكن ثمة ملاحظة مهمة في هذا الصدد، هي أن كثيرا من التحليلات يعزو ذلك الصعود إلى محفزات تتعلق بتغيرات في التركيبة المجتمعية، وصعوبات الاندماج الثقافي والاجتماعي بين مكونات ذات أصول وروافد متباينة دينيا وحضاريا. إلا أن هذه الرؤية، رغم وجاهتها، تعجز أحيانا عن تفسير وجود وتنامي التوجهات اليمينية التي تصل إلى حد العنصرية، في مجتمعات لا تعاني تلك الاختلافات أو -مجازا- التشوهات المجتمعية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية. فالأولي تجسد حالة من الاتساق والتماسك المجتمعي، مع قدر من التنوع. بينما تعد الثانية مثالا على المجتمع التعددي الذي يضم مكونات اجتماعية متباينة، ويستوعب توجهات فكرية وسياسية متعارضة. لذا، يصبح من المفهوم ما حققه اليمين من نجاحات وانتشار في دول ومجتمعات، هي بتركيبتها الديموجرافية مهيأة لتلك النزعات الراديكالية. وفي المقابل، تراجعت أسهم اليسار والأحزاب الاشتراكية، ومنيت بخسائر متتالية في الاستحقاقات الانتخابية. وهو ما تبلور بوضوح خلال عام 2016، ويتوقع استمراره وتعاظمه خلال العام الجديد .2017 والأمثلة على ذلك عديدة، منها النمسا، وفرنسا، وألمانيا.
الظاهرة الثانية، انتشار واتساع نطاق استخدام القوة المسلحة، ليست جديدة هي الأخري. فقد عادت لغة القوة إلى صدارة أدوات إدارة المشكلات والصراعات بشكل تدريجي مع بدايات الألفية الثالثة. وكانت مقصورة في البداية على حالات محددة تتعلق بالقوي الكبري في العالم، كما في غزو أفغانستان 2001، ثم العراق .2003 إلا أن الأعوام الأخيرة شهدت استخدام القوة المسلحة من جانب أطراف مختلفة النمط والقوة، تشمل دولا متوسطة، إضافة إلى فاعلين من غير الدول، بما في ذلك جماعات، وتنظيمات، وفصائل مختلفة الحجم، والنوعية، والأهداف، بعضها ذو طابع سياسي بالأساس، مع امتلاك ذراع مسلحة، مثل حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن، وبعضها ذو طابع محض عسكري، مثل فصائل المعارضة المسلحة في سوريا وليبيا. وقد تزايدت قوة أولئك الفاعلين من غير الدول، وتنامي دورهم، حتي صاروا رقما أساسيا في معادلات المشكلات والصراعات الإقليمية. بل أدي وجودهم وطبيعتهم، التي تعتمد على القوة المسلحة، إلى اضطرار الدول للتعامل معهم بالمثل، واستخدام الأداة العسكرية.
النتيجة المنطقية لهذا الوضع أن تتحول النزاعات والمواجهات المسلحة في بؤر مختلفة من العالم إلى ملفات معلقة وبؤر مزمنة من الصراع المفتوح على الاحتمالات كافة، وإن ليس أقربها التوصل إلى حلول، أو تسويات سياسية، ولو بشكل تدريجي. ويعزي ذلك إلى عوامل متداخلة، يتصل منها بالظاهرتين اللتين تعمقتا خلال العام الماضي (أن موقف الدول الكبري، خصوصا في العالم الغربي، تأثر بالمد الراديكالي اليميني هناك. فرغم الأضرار والسلبيات الكثيرة التي تعرضت لها أوروبا، بفعل تلك الصراعات، خاصة تدفق اللاجئين بأعداد هائلة، فإن ذلك لم ينعكس، بعد، في السياسات الأوروبية والغربية عموما تجاه تلك الصراعات. بل إن بعض التيارات اليمينية الصاعدة في الدول الأوروبية يرفع شعارات قومية وعنصرية، ويعلي الأفكار الإقصائية، والهويات الضيقة على القيم الإنسانية العليا، والمبادئ المشتركة التي يفترض أنها ركن جوهري في تكوين وتقدم العالم المتحضر. لذا، يبدو المشهد أن العالم يقف متفرجا على معاناة شعوب ومدنيين يقتلون بواسطة الآلة العسكرية لنظام حكم، أو لدول تسانده، أو لفصائل وتنظيمات مسلحة تفرض سيطرتها على الأرض، وتعدّ أهلها رهائن ودروعا بشرية. وليس أدل على ذلك من عدم حدوث أي تقدم فعلي في المسارات السياسية لمختلف القضايا والنزاعات المسلحة المتفجرة في مناطق مختلفة، خصوصا في الشرق الأوسط. فبعد فشل المحاولات السابقة لإيجاد حلول سياسية، لا جديد في أي مسار تفاوضي، أو مبادرات سياسية، وتحول الأمر إلى إعادة إنتاج لنسخ متشابهة من الصيغ السابقة التي لم يكتب لها النجاح.
وفي ضوء التعقيدات المحيطة بعمليات التسليح، وصعوبات المواجهات بين قوات نظامية، وأخري غير نظامية، فمن الصعوبة بمكان توقع احتمالات تمكن أي طرف من تحقيق نصر حاسم، أو تغيير موازين القوة في أي من النزاعات المسلحة الدائرة، وبالتالي هي مرشحة للاستمرار على الأقل، خلال العام الجاري. ويدعم هذا الاستنتاج تباين الحسابات السياسية للقوي الفاعلة، بما يجعل التوصل إلى حلول سياسية جذرية، أو حتى مرحلية، ليس أولوية بالنسبة لمعظم تلك الأطراف.
في المحصلة، تشكل تلك الظواهر الثلاث إرثا ثقيلا تركه عام 2016 للعام الجديد، والأرجح أن يتعاظم تأثيرها، ويستمر أبعد من هذا العام.
--------------------------
(*) تقديم قسم قضايا السياسة الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 207، يناير 2017
رابط دائم: