أصبحت المنطقة العربية، والشرق الأوسط إجمالا، من أكثر مناطق العالم التي تعاني موجات اللاجئين المتعاقبة، والمتلاحقة، والمتنوعة بسبب الأزمات المزمنة، مثل قضية الصراع العربي - الإسرائيلي، والأزمات الطارئة، مثل الحروب الأهلية والصراعات الداخلية على نحو ما هو حادث في كل من العراق، واليمن، وليبيا، وسوريا، مفجرة هجرة موجة كبيرة من اللاجئين، ومسببة إشكاليات متعددة، على نحو يجعلها جميعا تصطف تحت عنوان واحد، هو "إشكاليات بلا حل".
وتتعدد إشكاليات اللاجئين طبقا لنوع "الأزمة السبب"، فهناك "لجوء مزمن" نشأ بسب احتلال الدولة الأم، وهناك لجوء عارض بسبب الكوارث الطبيعية، والحروب، والصراعات الأهلية. فاللجوء الناتج عن الإحتلال تزول أعراضه بزوال الاحتلال، كما في حالة الاحتلال الأمريكي للعراق 2003-2011، وإن كانت أزمات العراق لم تنته بعد انتهاء الاحتلال بسبب سياسات التمييز الطائفي، وتنامي خطر الإرهاب.
لكن المشكلة تكمن هنا في الاحتلال الاستيطاني المتمثل في استمرار الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومرتفعات الجولان السورية، وبعض المناطق في الجنوب اللبناني، والذي تسبب في موجات لجوء عديدة من عام 1948 إلى عام 1967، فضلا عن اجتياح كل من لبنان وغزة المتكرر.
ومن المعروف عن الاحتلال الاستيطاني أنه قائم على الإحلال، والإبعاد، والتهجير القسري، والتعنت إزاء رفض حق العودة للفلسطينيين، الذي هو حقهم التاريخي، قبل أن تمنحهم الأمم المتحدة شرعية هذا الحق، متمثلا في قرارها الشهير رقم 194 لعام 1948، الذي يؤكد حق العودة والتعويض، فضلا عن إصرار إسرائيل وتعنتها في كل مفاوضات التسوية، طبقا لاتفاقات اوسلو 1994، وفي الالتفاف حول "حق العودة" بتفريغه من مضمونه بخلق وقائع استيطانية على أرض الدولة الفلسطينية المستقبلية، ورفض فكرة العودة إليها أساسا، حتي لا تلعب حسابات التوازن الديموجرافي دورها لمصلحة الفلسطينيين مستقبلا.
الإشكالية الأولي المترتبة على هذا الاحتلال الاستيطاني أنها خلفت أزمة لاجئين ممتدة عبر عدة أجيال. فهناك فلسطينيون قد ولدوا وعاشوا في بلاد الشتات، وربما ضعفت روابطهم بالوطن الأم، وتراجعت مسألة الهوية لديهم، وربما يئس الآخرون في العودة، وفضلوا الاستمرار في الدول المضيفة. والغريب أن هناك البعض منهم من يطمح حتي في العودة للأراضي الفلسطينية الأصل، الإسرائيلية الجنسية. لكن تظل المعاناة مستمرة لملايين الفلسطينيين في دول الشتات، ويبقي حلم العودة بعيد المنال لأسباب كثيرة.
أما النوع الآخر من موجات اللجوء، فهو اللجوء العارض، الذي ينتهي بزوال السبب، مثل الكوارث الطبيعية، أوالصراعات والحروب الأهلية المتفجرة عن ثورات الربيع العربي، مثلما هو حادث في سوريا، واليمن، وليبيا. وهذه الأزمات تنتهي بانتهاء الصراع أيضا. لكن المشكلة تكمن عندما تطول الأزمة زمنيا، مثلما حدث في الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، والأزمة الصومالية التي بدأت عقب سقوط نظام سياد بري عام 1992، ومثلما هو حادث الآن في سوريا، وبدرجات أقل في اليمن وليبيا. ولكن الحالة السورية هي الأبرز بسبب استمرار الأزمة، وتداخل مصالح أطراف إقليمية ودولية، متباينة ومتصارعة، وبسب ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي الذي ارتكب جرائم ضد الإنسانية في كل من سوريا والعراق، والذي تسبب في موجات جديدة من اللجوء. ورغم كثرة التقديرات، فإنه لا يوجد رقم متفق عليه، لكن المؤكد أن هناك خمسة ملايين و100 ألف لاجئ فلسطيني، يضاف إليهم ما يقرب من خمسة ملايين لاجئ سوري في الخارج، و 13.5مليون نازح في الداخل، فضلا عن أعداد العراقيين، والليبيين، واليمنيين، والصوماليين من قبل.
وتتعدد الإشكاليات التي تواجه اللاجئين عموما بين إشكاليات الخروج من دول الإرسال، وإشكاليات الإعاشة والتوطين، وإشكاليات قانونية وسياسية، وأخري مستقبلية مرتبطة بفرص العودة.
- إشكاليات الخروج: حيث يتعرض هؤلاء اللاجئون لأقصي درجات الاضطهاد والتمييز، وتهديد الحياة في دول الإرسال (الأزمات)، والتعرض لأقصي درجات العنف والبطش، مما يدفعهم إلى الهجرة والنزوح، حيث يواجهون الكثير من المعاناة، تتمثل في القدرة على الخروج سالمين من بين الهجمات العسكرية، أو الاعتداء عليهم، وتعرضهم للسلب، والنهب، أو الأسر، وأحيانا ما يستخدمون كدروع بشرية في حالة "داعش"، كما أنهم يتعرضون لمسارات لجوء غير آمنة. وكان حادث غرق الطفل السوري الكردي "إيلان" الذي وجد على شواطئ تركيا رمزا كبيرا لما يعانيه السوريون في رحلات اللجوء غير الآمنة، وتعرضهم للاستغلال، وخطر الموت غرقا.
- إشكاليات الإعاشة: وهي إشكاليات طارئة وسريعة، لأنها ترتبط بحياة اللاجئين، وضمان بقائهم أحياء، حيث قامت دول الجوار المضيفة بتوفير المأوي لهم، والخدمات المعيشية الأساسية لهم. وفي مرحلة متقدمة، يتم تقديم حلول إعاشة غير تقليدية، وإعادة تأهيل اللاجئين، ودمجهم في قوة العمل، واتباع منهجية تنموية بدلا من تقديم المساعدات. لكن مشكلة المخيمات في كثير من الدول أنها تكاد توفر حد الكفاف في ظروف بيئية غاية في السوء بسب الأعداد الكبيرة التي اكتظت بها، مع تراجع مستوي الخدمات بسبب نقص التمويل، هذا فضلا عن القيود المفروضة عليها، والتي تحد من قدرة هذه المخيمات على التطور عمرانيا، منتجة بذلك مناطق أقرب للعشوائيات، مثل مخيم "الزعتري" في الأردن، علاوة على تراجع قدرة الدولة المضيفة على الاستيعاب، وتخاذل المجتمع الدولي في الوفاء بوعوده، والتضييق على منظمات المجتمع المدني، والمفوضية السامية لشئون اللاجئين في القيام بدوريهما، كما في حالة تركيا التي تشرف بنفسها على مخيمات اللاجئين. والغريب أن العديد من الدول تفرض القيود على حق اللاجئين في العمل، مما يضطرهم للعمل في سوق العمل غير الرسمية المتدنية الأجر، بل يحظر بعض الدول على اللاجئين العمل في مجالات معينة.
- إشكاليات التوطين: حيث نجد أن قدرة الدول المضيفة على التوطين ضعيفة، حيث تشير البيانات إلى أن ما نسبته3.6 % من السوريين قد تم توطينهم. وقد قدمت ألمانيا بمفردها 54٪ من فرص التوطين التي وعد بها الاتحاد الأوروبي، وقدمت صربيا 3٪، في حين تحججت دول كبري بمبدأ "الحصة العادلة"، وتهربت من واجبها الأخلاقي والإنساني، واستعاضت عن ذلك بدفع الأموال لدول الجوار المضيفة.
والتوطين هنا يقصد به توفير الخدمات الإنسانية، وفرص العمل، والحياة الكريمة، في حين يطرح "التوطين" في موضع آخر كصورة من صور الحل الدائم والنهائي، مثلما هو مطروح على اللاجئين الفلسطينيين في كل مفاوضات التسوية، بتوفير "الوطن البديل" مقابل التنازل عن حق العودة. ولكن غالبية الفلسطينيين حتى الآن يرفضون هذا الحل، ويتمسكون بحق العودة.
- إشكاليات التمويل: وترتبط بالإشكاليتين السابقتين، فلا إعاشة بلا تمويل، ولا توطين بلا تمويل، بل إن التمويل هو القاسم المشترك لكل الإشكاليات أو الحلول. لكن التمويل لا يكفي سوي حد الكفاف. فالمخصصات المالية المقررة حتي نهاية عام 2015 للسوريين تقدر بـ 5.5 مليار دولار، وما تم صرفه لم يتجاوز 1.6 مليار دولار، مما أدي لحدوث فجوة تمويلية تقدر بـ 3.47مليار دولار. فالدول الكبرى تراجعت عن استضافة وتوطين اللاجئين، واستعاضت عن ذلك بتقديم الأموال كنوع من إبراء الذمة. ومع ذلك، فقد تلكأت في صرف حصصها المالية.
- إشكاليات قانونية وسياسية: فالقانون الدولي ضمن الحق في اللجوء لكل من يعاني القهر، والاضطهاد في إطار من الحقوق والواجبات، كما أقر المبادئ والقواعد القانونية، ذات الصلة، وأنشأ أجهزة دولية متخصصة، مثل المفوضية السامية، ومنظمة العفو الدولية. لكنه لم يحدد إطارا ملزما لمساعدة اللاجئين، بل هو عمل اختياري غير ملزم. لذا، فقد ظل الباب مفتوحا على مصراعيه لتنصل الدول من واجبها الإنساني.
والغريب أن كثيرا من الدول، ومنها الدول العربية، لم ينضم لاتفاقية الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين عام 1951 كما أن الاتفاقية العربية لتنظيم شئون اللاجئين (مارس 1994) لم تدخل حيز التنفيذ حتي الآن، كما لا توجد تشريعات وطنية منظمة للتعامل مع قضايا اللاجئين، وما تقدمه الدول من مساعدة هو من باب الواجب الإنساني.
من ناحية أخري، نجد أن اللاجئين محرومون من حقوق المواطنة التي يتمتع بها مواطنو البلد المضيف، باستثناء لاجئي 1948 الذين اكتسبوا الجنسية الأردنية. أما خلاف ذلك، فهم يعاملون في أغلب الدول بعدّهم عديمي الجنسية. بل إن جامعة الدول العربية قد ألزمت دولها بعدم منح جنسية دولها للفلسطينيين حفاظا على هويتهم، وحتى تظل قضيتهم محل اهتمام. وعندما منحت مصر الجنسية لأبناء الأم المصرية من أب غير مصري، وحصل الفلسطينيون من أم مصرية على الجنسية المصرية، عدّ ذلك تجاوزا ومخالفة، في حين أن البعض عد ذلك تخفيفا، ومساعدة للفلسطينيين على استمرار الحياة بدون التعرض للعوائق القانونية التي تثور بحق عديمي الجنسية، على نحو لا يجعلهم عرضة للتقلبات السياسية بين الدولة الأم، والدولة المضيفة.
ويتعرض اللاجئون في كثير من الحالات لعداء الدولة المضيفة، فهم في نظر مواطنيها عبء على اقتصادهم، ويشكلون ضغوطا على مستوي المعيشة. والغريب أن قضية اللاجئين بدأت تأخذ أبعادا طائفية تمييزية. فإقليم كردستان العراق لا يقبل من اللاجئين السوريين إلا من كان كرديا. كما طالب بعض الأوروبيين باستضافة اللاجئين المسيحيين، ورفض المسلمين، حيث أشار فيكتور أوروبان، رئيس وزراء المجر، إلى "أن غالبية هؤلاء اللاجئين من غير المسيحيين، أي أنهم يمثلون ثقافة مختلفة في العمق، وهذه مسألة تمس جذور الهوية الأوروبية".
وفي المقابل، دعا جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، دول الاتحاد الأوروبي إلى تحاشي التمييز بين اللاجئين الذين يودون استقبالهم، بناء على ديانتهم أو معتقداتهم، مشددا على ضرورة إبعاد الديانة، أو المعتقد، أو الفلسفة، حين يتعلق الأمر باللاجئين. بينما عبر بابا الفاتيكان عن رفضه التشنج إزاء اللاجئين المسلمين، والتخوف من التغيرات الديموجرافية التي يمكن أن يحدثوها في الجسد الأوروبي. ولا يزال القلق مستمرا إزاء دعوات التمييز والعنصرية بسبب تنامي تيار اليمين المتطرف في أوروبا، الرافض لاندماج العرب والمسلمين في المجتمعات الغربية.
- إشكاليات العودة: ويظل هدف العودة الهدف الأسمى لكل المهجرين، لكن هذا الهدف يتراجع كثيرا في حالة الفلسطينيين، بسبب تراجع الدعم العربي، وتزايد الانشغال بالهم الداخلي، والتعنت الإسرائيلي، والموالاة الغربية لإسرائيل. كما لا يبدو في الأفق حل للأزمة السورية، في ظل تقاطع المصالح وتباينها. لكن الجميع يترقب التغيير المحتمل للسياسة الأمريكية تجاه الأزمة السورية في عهد الرئيس الجديد دونالد ترامب التي ربما تفضي إلى تفاهمات ما مع روسيا تجاه الحل في سوريا. وحتي في حالة العودة، فإن الأمور لن تكون سهلة في ظل الحاجة لإعادة الإعمار، والموقف السياسي تجاه اللاجئين، وإشكاليات الاستيعاب في حالة الدولة الفلسطينية المستقبلية، إذا تمت الموافقة على عودتهم، وإشكاليات الهوية في حالة العودة لدولة الاحتلال في إطار ما يسمي"لم الشمل".
ورغم الجهود المضنية التي تبذلها منظمات الأمم المتحدة، والمجتمع المدني، والمنظمات الإقليمية، ورغم الأضرار والأعباء التي تواجهها الدول المضيفة، فإن هذه الجهود لا تزال عاجزة عن إيجاد حلول إنسانية عادلة، وعاجلة، وناجزة للإشكاليات الكبرى التي تثيرها قضية اللاجئين. وأخيرا، يبقي الطريق الصحيح لحل أزمات اللاجئين مرهونا بإنهاء الأزمات المفجرة لتدفق اللاجئين في الشرق الأوسط.
(*) تقديم، ملف العدد " مأساة اللاجئين.. في عالم يفقد إنسانيته، مجلة السياسة الدولية، العدد 207، يناير 2017
رابط دائم: