المعادلات المستعصية والدولة المستحيلة
2-11-2016

أمين بن مسعود
* كاتب ومحلل سياسي تونسي
باتت مسألة التواجد العسكري الأميركي في تونس أكبر من مجرّد تكذيب صادر عن وزارة الدفاع التونسية يتلوها نفي من وزارة الخارجية، ذلك أنّ التكثيف الحاصل في المعلومات من المصادر الرسمية في واشنطن والتركيز الإعلامي لكبريات الصحف الأميركية للانتشار العسكري في شمال أفريقيا يشير إلى أنّ القضية لا بدّ أن تحسم تونسيا ضمن معادلة كشف المعطيات لا حجب الحقائق.
 
قد يكون الخطأ الاتصالي الأكبر الذي تقع فيه اليوم حكومة يوسف الشاهد ومن قبلها حكومات ما بعد الثورة، كامنا في التمترس وراء حائط التكذيب والنفي والتصويب حيال تسونامي من المعطيات الإعلامية التي يختلط فيها الحابل بالنابل، حيث أنّ أنصاف الحقائق لا تقوّض إلا بالرواية الكاملة للواقعة، فيما أنّ التكذيب المحتشم الذي يبدأ بعبارة “عقب المغالطات الواردة في البعض من شبكات التواصل الاجتماعي” لا يشفي غليل طالب المعلومة، ولا يضع حدّا لحبل الأخبار الصحيحة منها والكاذبة.
 
كان من الواضح أنّ بروتوكول الاتفاق التونسي الأميركي الأخير يضع اللبنات الأولى لمسار جديد من التعاون والتحالف الثنائيّ لمجابهة الإرهاب في منطقة شمال أفريقيا، وهو اتفاق بدأت مؤشراته تظهر من خلال تسخير واشنطن لقواعد عسكرية تونسية لضرب القواعد الإرهابية في ليبيا عبر طائرات أميركية بلا طيار.
 
كما أنّه من طبيعة الأمور وحقيقة تداعياتها أن تكون لاعتبار تونس الحليف الاستراتيجي لواشنطن من خارج منظومة حلف الأطلسي استتباعات أمنية وعسكرية تبدأ استراتيجيا من تقاطع الحرب على الإرهاب، ولا تنتهي ميدانيا وعسكريا عند توظيف واشنطن للجغرافيا التونسية.
 
تشير القراءة الجغراستراتيجية إلى أنّ واشنطن التي تغادر اليوم الشرق الأوسط لفائدة موسكو بعد أن أبرمت الانتقال الإمبراطوري في تلك المنطقة والقاضي بأمن إسرائيل وإنشاء دويلة كردية في سوريا، تبحث اليوم عن التمركز الجديد في القارة الأفريقية من جهة، وغرب آسيا من جهة ثانية ضمن ما يمكن أن نطلق عليه بـ“التمركز الرخيص والناجع”.
 
كما تبسط ذات القراءة زاوية تحليلية قوامها أنّ أميركا، التي أنشأت قاعدة عسكرية “أفريكوم” في السنغال بداية يوليو الماضي والتي تملك إطلالة بحرية على الساحل الجنوبي المتوسطي في صقلية، تريد شكلا المزيد من التضييق على الجماعات الإرهابية عبر تواجد عسكري غير مباشر ثالث في تونس، وتبتغي مضمونا وجوهرا المزيد من تكريس وجودها في منطقة شمال أفريقيا.
 
قد يكون من باب السذاجة الانتظار من واشنطن التي تحالفت مع الإرهاب في وقت سابق، أن تحارب الإرهاب في ليبيا من أجل الاجتثاث بقدر ما سوف تحاربه من أجل تجييره ضمن سياساتها في المنطقة. لم تحارب واشنطن يوما الإرهاب من أجل القضاء عليه، بقدر ما حاربته من أجل السيطرة عليه وتوجيهه ضمن لعبة الأمم وتدوير قواعد المكاسرة الإقليمية والدولية.
 
اليوم، واشنطن حيال معادلة محاربة الإرهاب في منطقة شمال أفريقيا والذي خرج عن السيطرة بشكل كليّ، مع السعي إلى إعادة السيطرة عليه وتوظيفه ضمن أهدافها الإقليمية والكامنة في: أولا، المحافظة على الحدّ الأدنى من السلطة السياسية والعسكرية في ليبيا القادرة على منع الهجرة غير الشرعية إلى سواحل أوروبا دون السماح لها بالتحوّل إلى دولة. ثانيا، ضرب القواعد العسكرية للدواعش دون القضاء عليهم نهائيا. وثالثا، توفير السياقات والأطر اللازمة لإنشاء دويلة تامزغا في ليبيا، وبالتالي في شمال أفريقيا على الشاكلة الكرديّة.
 
ولئن كانت الرهانات الأميركية تتأسس على مقولة “استهداف الإرهاب لاستنزاف الإقليم وإنشاء الكيانات الهجينة”، فإنّ المقاربة التونسية تقوم على دفع الإرهاب إلى خارج حدود الوطن والإقليم واستهداف الخلايا النائمة، وهي رؤى غير متقاطعة مع بعضها البعض أوّلا، ومكلفة في علاقات تونس بجيرانها ثانيا.
 
المفارقة التاريخية لكلّ من يستقرئ الشواهد العسكرية أن واشنطن لا تستنكف لحظة ولا سيما عند اشتداد الأزمة وخروج المارد الإرهابي من قمقمه واشتداد عضده، أن تغادر المسرح والمشهد دون أي استئذان من صاحب الأرض والسيادة المنتهكة.
 
المفارقة الأعظم أنّه حين يبقى صاحب الأرض وحيدا؛ خطر الإرهاب وراءه، وركام العلاقات الاستراتيجية مع جيرانه قد تردّت أمامه بمقتضى ما يسمى زورا وبهتانا “الحلف” مع الغادرين القدامى والجدد، حينها تكون الطامة الكبرى.
 
-----------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 31-10-2016.

رابط دائم: