عرض :مني مصطفي محمد - باحثة في العلوم السياسية
Christopher S. Chivvis The French war on al Qa'ida in Africa (New York: Cambridge university press, 2016)
أثار التدخل العسكري الفرنسي في مالي في عام2013جدلا واسع النطاق. فلم تقم فرنسا بعمليات تدخل عسكري واسعة النطاق منذ حربها على الجزائر. ولهذا،تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يسعي لإعادة النظر في ذلك الاتجاه السائد في الأدبيات الذي يتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية على أنها الدولة الأكثر ميلا للتدخل العسكري الخارجي. حيث يؤكد الكتاب أن فرنسا قد تدخلت عسكريا بمعدل يفوق عدد مرات تدخل الولايات المتحدة، بيد أنها تتبع استراتيجية مختلفة تعتمد على العمليات التي تقوم بتحقيق أهداف استراتيجية في أقل وقت ممكن.
أسباب التدخل في مالي:
يري كريستوفر شيفزس أن الثورات العربية لم يقتصر تأثيرها على دول الجوار المباشر فحسب،بل امتد ليشمل دول الساحل والمغرب العربي. إذ إن الفرصة أصبحت سانحة للجماعات الجهادية السلفية التي تنشط في منطقة الساحل والمغرب العربي لتحقيق مخططها لقيام دولة الخلافة،وذلك بعد الاضطراب الأمني الذي شهدته العديد من دول المنطقة. ومن هذه الدول،امتد التأثير ليصل إلي مالي في عام.2012
من ناحية أخري،أدي سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا في عام2011إلي عودة آلاف الطوارق،الذين كانوا يقاتلون مع الجيش الليبي،إلي أزواد شمال مالي،وبحوزتهم أسلحة ثقيلة،وقاموا بالانضمام إلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد. وقد استطاعت الحركة السيطرة على عدة مدن مهمة في مالي. وقد استغل تنظيم القاعدة وعدة تنظيمات إرهابية تابعة له هذا الاضطراب لتتمدد في مالي،ولتتحول فيغضون فترة قصيرة إلي ما يشبه "الفردوس الآمن للجهاديين"،على حد تعبير الكاتب.
وبدأت التنظيمات الإرهابية في مهاجمة المواطنين الفرنسيين المقيمين في مالي، والذين يقدر عددهم بنحو7000ألف مواطن. فعلى سبيل المثال،قام كل من تنظيم القاعدة،وأنصار الدين،وجماعة التوحيد والجهاد في مطلع عام2013بالهجوم على بلدة كونا التي يقطن بها عدد كبير من الفرنسيين. كما قامت التنظيمات الإرهابية باختطاف عدد كبير من الفرنسيين من أجل الحصول على فدية. ومن جانب آخر،فإن شمال مالييحتوي على العديد من الثروات الطبيعية،ويقع بالقرب من حقول نفط موريتانية مهمة.
وأثار هذا كله تخوفات فرنسا التي فضلت اللجوء إلي الحل العسكري،بعد أن قامت بإبلاغالولايات المتحدة الأمريكية. ويشير المؤلف إلي أنه على الرغم من أن التدخل الفرنسي كان مفاجئا بالنسبة للكثيرين، فإنه يجادل بأن هذا يعد استمرارا للسياسة الفرنسية. إذ إن فرنسا تعد من أكثر الدول المتدخلة عسكريا في دول أخري،حيث قامت بإرسال قواتها إلي الخارج بما يقدر بنحو14مرة منذ نهاية الحرب الباردة حتي عام.2011
رؤية الجيش الفرنسي للتدخل:
لم تكن مالي محل اهتمام من القوي الكبري باستثناء فرنسا،حيث كانت الولايات المتحدة منشغلة بأزماتها في العراق وأفغانستان. وكانت بريطانيا تفضل الانتظار لفترة أطول قبل اتخاذ قرار بشأن مالي، فيما كانت ألمانيا تعتمد على "دبلوماسية دفتر الشيكاتCheckbook diplomacy"،والتي يقصد بها السياسة الخارجية التي تعتمد بشكل رئيسي على المساعدات الاقتصادية والاستثمارية لتحقيق مصالحها في إفريقيا.
في هذا السياق،عملت فرنسا على تهيئة الجيش الفرنسي للمشاركة،فانتشر خطاب وسط صفوف القادة والضباط بأن التدخل العسكري في مالي هو الملاذ الأخير الذي لا مفر منه، وأن فرنسا لا ترغب في الانخراط من جديد في عمليات احتلال للقارة الإفريقية،لكنها مجبرة من خلال دافع أخلاقي تجاه مستعمرتها السابقة للمشاركة،وإنقاذها من حالة الفوضي.
وبناء على مقابلات أجراها المؤلف،تبين أن بعض أعضاء المؤسسة العسكرية الفرنسية لم يقبلوا بهذا الخطاب،وذلك بسبب أن فرنسا كانت تتجه في ذلك الوقت إلي تقليل انخراطها في العمليات العسكرية لحلف الناتو. فعلى سبيل المثال،قام الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي باتخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان لتنسحب آخر القوات الفرنسية في ديسمبر2012.وكذلك شاركت فرنسا بالتدخل العسكري في ليبيا في عام2011بقدر محدود من القوات، ولم يكن دورها مؤثرا في مسار العمليات هناك. وقد رأي عدد من أعضاء المؤسسة العسكرية الفرنسية أن هذا الانسحاب التدريجي من عمليات حلف الناتو يهدد وحدة الحلف،ومكانة فرنسا داخله.
من جانب آخر،أدي ارتفاع حجم الديون السيادية الأوروبية إلي اتخاذ قرار بتخفيض ميزانية الدفاع الفرنسية. بيد أن التدخل العسكري في مالي حال دون هذا التخفيض، وتحملت فرنسا وحدها عبئا ماليا كبيرا. فقد كانت المؤسسة العسكرية الفرنسية تري أنه من الضروري أن تشترك معها باقي الدول الإفريقية المتضررة في تحمل العبء الأكبر.
تطور العمليات العسكرية بمالي:
حصلت فرنسا على الدعم العسكري من بعض الدول الأوروبية والإفريقية، كما قدمت لها الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات استخباراتية ولوجيستية. لكن فرنسا اعتمدت بشكل أساسي على قواتها الخاصة الموجودة في بوركينافاسو. وسعت فرنسا في البداية إلي السيطرة على جنوب مالي الذي كانت تسعي الجماعات الإرهابية إلي السيطرة عليه. وحاولت القوات الفرنسية دحر الجماعات الإرهابية الموجودة في إقليم أزواد بشمال مالي. وبعد العديد من المعارك،نجحت القوات الفرنسية في استعادة السيطرة على الإقليم،والاستيلاء على الذخيرة والأسلحة التي تمتلكها هذه الجماعات. كما قصفت بعض المواقع التي كانت تعد بمنزلة الملاذات الآمنة لهذه الجماعات.
ركزت القوات الفرنسية على تأمين العاصمة باماكو بهدف حماية المواطنين الفرنسيين بالأساس الأول. وفي المجمل،حقق التدخل العسكري في مالي جزءا من أهدافه،بحسب الكتاب. ولهذا،أعلن الرئيس فرانسوا هولاند أن القوات الفرنسية ستنسحب بشكل تدريجي حتي قدوم بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة،مع بقاء بعض الجنود الفرنسيين لمساعدة البعثة على إتمام مهمتها،نظرا لكونهم الأكثر خبرة بالخريطة الديموغرافية للمنطقة.
تداعيات على السياسة العسكرية الفرنسية:
يعد التدخل العسكري الفرنسي في مالي أكبر عملية عسكرية لفرنسا منذ عملياتها في الجزائر. وقد أدي هذا التدخل لعدة تغيرات فيما يتعلق بالسياسة العسكرية الفرنسية. ولعل من أهم هذه التغيرات صعود دور القوات العسكرية الفرنسية الخاصة،حيث أدت الدور الأكبر،في أثناء الحملة العسكرية على مالي،وهو ما دفع فرنسا لزيادة المخصصات المالية لها، وإبرام اتفاقيات تدريب مشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية. كما قامت فرنسا في عام2014بزيادة عدد أفراد القوات الخاصة بنحو30٪،أي ما يعادل ألف جندي، وقامت بإعداد برامج لتنمية قدراتهم،بالتعاون مع المخابرات الفرنسية.
ويضيف المؤلف أن فرنسا أصبحت أكثر استعدادا للتدخل العسكري في الحالات الشبيهة بحالة مالي،على ألا يكون هذا التدخل لفترة ممتدة علىغرار أفغانستان. كما يجب ألا تتحمل وحدها العبء الأكبر من تكلفة العمليات العسكرية،بل يقوم المجتمع الدولي بمشاركتها في تحمل العبء.
أكدت العمليات العسكرية في مالي لفرنسا ضرورة أن تسعي لتطوير أسطولها الجوي،حيث إنها اعتمدت في نقل عدد كبير من جنودها على الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك،طالب بعض القيادات العسكرية بتعزيز العمل وفقا لاستراتيجية "خمس عيون"،التي يقصد بها التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة، ونيوزيلندا، وكندا، واستراليا، والمملكة المتحدة،على أن يشمل هذا التعاون مستقبلا فرنسا، كما قامت بتعزيز التعاون بشكل ثنائي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
إجمالا، يمكن القول إن القارة الإفريقية قد تحولت إلي إحدي أولويات السياسة الخارجية الفرنسية. وقد عززت فرنسا من وجودها الدبلوماسي والاقتصادي هناك بعد العمليات العسكرية في مالي. بيد أنه لا يستبعد أن تلجأ فرنسا إلي الاعتماد على الأداة العسكرية مجددا،في حالة ظهور تهديد لمصالحها الحيوية في إفريقيا،أو المناطق المتاخمة لمصالحها.
رابط دائم: