عرض: رانيا مرزوق حسن- باحثة متخصصة في الشئون الاقتصادية
Thomas Piketty,
Capital in the Twenty-First Century, (USA: Harvard University Press, 2014)
في ضوء ما يشهده العالم من هبات غضب شعبي وثورات في مختلف بقاع العالم، حيث تتصاعد أصوات الشعوب، مطالبة باسترداد حقوقها الاقتصادية التي كثيرا ما سيطرت عليها القلة المهيمنة علي السلطة والثروة، تأتي أهمية كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" لمؤلفه توماس بيكيتي الاقتصادي الفرنسي.
وقد أثار هذا الكتاب نقاشا حادا -لم يهدأ- في الولايات المتحدة حول الرأسمالية، والعلاقة بين السلطة والمال. وقد تصدر الكتاب أكثر الكتب مبيعا، حسب صحيفة نيويورك تايمز، وهو مركز مرتفع بالنسبة لكتاب أكاديمي.
تساؤلات حول مستقبل تطور رأس المال:
في البداية، يطرح المؤلف مجموعة من التساؤلات التي يري أن الإجابة عليها ستكون حاسمة بالنسبة للمسار الاقتصادي، خلال هذا القرن، منها: هل ستؤدي آليات تكدس رءوس الأموال إلي تمركزه القوي في أيدي البعض مثلما توقع بعض اقتصاديي القرن التاسع عشر؟، هل ستستطيع قوي الضبط الذاتي التوصل إلي الحد من التباين الاقتصادي، وإلي حالة من الانسجام تكون مفتاحا للاستقرار، مثلما توقع بعض الاقتصاديين في القرن العشرين؟ وباختصار: كيف سيتطور رأس المال علي المدى الطويل؟.
ما يحاوله المؤلف هو تحديد توجهات المستقبل وفهم آليات توزيع رأس المال، وتقاسم الثروات بين الشعوب والأفراد. ويتطرق ضمن هذا الإطار إلي رأس المال وتاريخه، منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، ولكن ليس من كونه مسألة اقتصادية بحتة، بل أيضا من حيث أبعاده الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية، وبالطبع الاقتصادية. ويستعرض عبر هذا كله مختلف الأطروحات التي صيغت حول المسائل المتعلقة برأس المال، وتطور مساره، وانتقاله بين الأجيال، وهذا مع تحديد فرنسا كحالة دراسة.
يشير بيكيتي إلي أن مسألة توزيع الثروة تتضمن قدرا من الأهمية والتداخل مع مسائل أخري، مما يجعل دراستها لا تقتصر على الاقتصاديين، والمؤرخين، والفلاسفة، ورجال السياسة، بل هي موضع اهتمام جميع البشر. ويؤكد هنا قاعدة، مفادها أنه ما دام معدل مردود رأس المال المستثمر في الأسواق أو البنوك أعلى دائما من معدل النمو الاقتصادي، فإن الأولوية لا تكون لرأس المال المنتج الذي يشكل العمل مصدره.
وانطلاقا من التساؤلات السابقة، يعرض بيكيتي أشكال تراكم الثروة بين الطبقات المختلفة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، ويستخلص أن الثروة تتراكم لدي أصحاب رأس المال أكثر منها في يد العاملين. ويري أن استثناء حصل على أثر الحربين الكونيتين اللتين أدتا إلي تدمير ثروات بعض الرأسماليين الكبار، فيما أسهم النمو السكاني والاقتصادي الاستثنائي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، واستمر ثلاثين سنة، أطلق عليها الفرنسيون لقب الثلاثين المجيدة في إنعاش طبقة العاملين في توسيع الطبقة الوسطي إلي حجم لم تكن الدول الغربية شهدت مثله. لكن فور انتهاء مجهود إعادة الإعمار، عاد رأس المال ليتركز في يد قلة قليلة، فيما راحت الطبقة الوسطي في الدول الغربية تضمر رويدا رويدا.
حتمية التفاوت المتطرف في القرن الحادي والعشرين:
يتناول المؤلف بالتحليل قضية عدم المساواة وتطورها، وكيف أن السوق الحر -حتى في دول الرفاه الأوروبية- لن يصل في النهاية إلي تضييق المسافات بين الأغنياء والفقراء، ولن يحقق حلم الثراء للمليارات من الفقراء ومحدودي الدخل حول العالم، دون تدخل من البشر، مما سيعيد معدلات عدم المساواة في الدخل حول العالم لتصل إلى سقفها الجنوني في القرن الحادي والعشرين.
ويدلل المؤلف على نبوءته بالنمو البطئ، والتفاوت المتطرف في القرن الحادي والعشرين على استقراء بيانات تاريخية ومعادلة بسيطة، حيث توضح البيانات التي جمعها -بمساعدة كثير من الباحثين في بلدان مختلفة- أن الإنتاج لكل شخص (أي الإنتاجية) تميل عبر فترات طويلة من الزمن إلى النمو بمعدل 1 إلى 1.5٪. كما توضح البيانات أيضا أن معدل العائد على الاستثمار عبر فترات طويلة من الزمن يتراوح بين 4 و5٪.
كذلك، تؤكد بيانات العوائد الضريبية أن دخول الطبقة الوسطي بقيت ثابتة طوال الأعوام الثلاثين الماضية، وأن دخول الطبقة العليا قد ابتعدت أشد ما يكون الابتعاد عن الجميع، بحيث حصل أصحاب رأس المال الموسرون على حصص أضخم وأضخم من الثروة العالمية والدخول.
يعني ذلك أنه كلما يكون العائد على رأس المال المالي (الاستثمار) أعلى من العائد على رأس المال البشري (الإنتاجية) لفترة ممتدة، فإن حسبة بسيطة تكفي لنصل إلى نتيجة أن ذلك الوضع سيفضي إلى ازدياد التفاوت. والسبب أن أصحاب أعلى الدخول سيدخرون ويستثمرون، مما يؤدي إلى توليد دخل رأسمالي يتيح لهم أن يتقدموا على أولئك الذين يعتمدون فقط على الأجور والرواتب، إلى حد الانفصال عنهم. ولا يستغرق الأمر غير أجيال قليلة، قبل أن تتحول هذه الثروة المتراكمة إلى عنصر مسيطر في الاقتصاد والبنيان الاجتماعي - الاقتصادي.
وبهذا، يصل المؤلف إلى استنتاج أن المحرك الخفي لعدم المساواة المتطرفة هو أن عوائد رأس المال تتجاوز معدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يثير السخط الطبقي، ويقوض القيم الديمقراطية في الغرب، وهو ما يفسر انطلاق نوع جديد من الرأسمالية، أقل صناعية، وأكثر مالية، قائم أساسا على المضاربات، إذ يشهد العالم في هذه المرحلة من العولمة مجابهة حادة بين السوق والدولة، بين القطاع الخاص والخدمات العامة، بين الفرد والمجتمع، بين الأنانية والتضامن الاجتماعي.وباتت السلطة الفعلية بين أيدي فئة من المجموعات الاقتصادية العالمية والشركات متعددة الجنسيات التي يزيد وزنها الاقتصادي أحيانا على وزن بعض الدول والحكومات مجتمعة.
توليفة جديدة لإعادة التوازن الطبقي:
وبعد أن شخص المؤلف جوهر قضية عدم المساواة ومستقبلها في القرن الحادي والعشرين، يقدم طرحا للتفكير على الأجيال القادمة، يتمثل في الضغط من أجل خلق إرادة سياسية عالمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولو بشكل نسبي. ويسوق مثالا لما توصلت إليه الحكومة في بريطانيا، من أجل إحداث نوع من التوازن، من فرض ضرائب أكبر على أصحاب الدخول المرتفعة والأغنياء، بدلا من تخفيض الخدمات التي تؤثر في الطبقات الفقيرة في المجتمع، مع تضييق الخناق على المتهربين من الضرائب، سواء كانوا أفرادا أو شركات، وهو أحد الحلول المهمة والعملية، حيث إنه في القرن الحادي والعشرين لا يمكن للدولة أن تتبني أحد هذين الخيارين المتناقضين: الأول "الدولة الشمولية"، والآخر هو "دولة الحد الأدني" التي تلغي تدخل الدولة تماما.
ويري أن النموذج المقبل والمقترح سيكون نموذجا وسطيا معتدلا، أو طريقا ثالثا، يقوم على أساس التأليف الخلاق بين دور إشرافي للدولة على مسارات الرأسمالية واتجاهات الائتمان من ناحية، وإطلاق حرية للقطاع الخاص تحت الرقابة من ناحية أخري، وسيفتح هذا بابا جديدا من أبواب التاريخ قد يطلق عليه من بعد "الرأسمالية المراقبة".
وختاما، يمكن القول إنه بالتطبيق على الحالة المصرية، فإن كتاب بيكيتي يضعنا أمام تساؤلات عديدة حول كيفية وضع وتبني آليات أكثر عدالة لإدارة وضع اقتصادي صعب، تراكمت عليه عوامل الركود، والتضخم، والبطالة، والفقر، ويدفعنا إلي التساؤل عمن سيتحمل تبعات حل الأزمة الراهنة، ومدي تأثير الحلول الاقتصادية المطروحة، سواء من الدولة أو المؤسسات الدولية المانحة، للخروج من الوضع الراهن.