من المجلة - كيف يفكر العرب ؟

اقتراب متكامل:| الأمن القومي المصري عقب ثورة "30 يونيو"

داخلي
طباعة
طوال الأعوام الأربعين الماضية، وفي إطار محاولاتنا تطوير نظرية الأمن القومي وتطبيقاتها على الأمن القومي المصري والعربي، نستطيع أن نقول، وبثقة تامة، إن الأمن القومي يعني قدرة الدولة ليس فقط على حماية الوطن من التهديدات التي تواجهه، وإنما يتصل كذلك بقدرة الدولة على حماية مواطنيها،‮ ‬وتحسين كل من نوعية الحياة وجودتها ومستواها‮.‬
 
ولا شك في أن ذلك يعد نقلة نوعية عن المفهوم التقليدي الذي كان يختصر الأمن القومي في قدرات الدولة العسكرية والدفاعية‮. ‬حيث إن هناك دولا قوية عسكريا، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، تعرضت لتهديدات حقيقية لأمنها القومي‮.‬ كما أن مواطني إسرائيل، رغم قوتها العسكرية، لا يشعرون بالأمن تجاه الفلسطينيين العزل،‮ ‬والأقل قوة من إسرائيل‮.‬
 
أولا‮- ‬نحو تعريف إجرائي‮:‬
 
يمكن إجمال العناصر التي يتأسس عليها مفهوم الأمن القومي في ثلاثة متغيرات مترابطة ومتشابكة ومتزامنة،‮ ‬هي‮:‬
 
أ‮-‬ البعد السياسي، الذي يعني قدرة الدولة على استيعاب وتضمين المواطنين في الحياة السياسية، والحد من التهميش السياسي‮.‬
 
ب‮-‬ البعد الاقتصادي الذي يتصل بقدرة الدولة على توفير الحياة الكريمة للمواطنين،‮ ‬بما في ذلك الحاجات الأساسية كالغذاء،‮ ‬والتعليم،‮ ‬والمسكن،‮ ‬والصحة،‮ ‬والحد من إحساس المواطن بالحرمان الاقتصادي،‮ ‬حيث إن تزامن التهميش السياسي،‮ ‬والشعور بالحرمان الاقتصادي يؤديان بالضرورة إلي عدم الرضا، ومن ثم اللجوء إلي العنف،‮ ‬وتهديد الأمن القومي‮.‬
 
جـ‮-‬ القدرة العسكرية للدولة بما يعنيه ذلك من قوات عسكرية عصرية مدربة تدريبا حديثا،‮ ‬وأسلحة وتكنولوجيا عسكرية عصرية‮.‬
 
وتتطلب حماية الأمن القومي للدولة رسم سياسات أمنية تحدد مصادر التهديد الرئيسية والثانوية، سواء كانت خارجية أو داخلية، وسبل تحويل المتغيرات سالفة الذكر إلي قدرات لمواجهة تلك التهديدات‮.‬ ويقتضي ذلك وجود مؤسسات سيادية تتولي دراسة التهديدات،‮ ‬ووضع الاستراتيجيات والخطط اللازمة لمواجهتها‮.‬ وفي هذا الإطار، وبعد أكثر من ثلاثين عاما من المحاولات الدءوب لدي النظم السياسية التي توالت على حكم مصر،‮ ‬فقد تقرر في دستور‮ ‬2012،‮ ‬ثم دستور‮ ‬2014،‮ ‬إنشاء مجلس الأمن القومي،‮ ‬علي‮ ‬غرار مجلس الأمن القومي الأمريكي الذي أنشئ في يوليو عام‮ ‬‭.‬1947
 
والحالة المصرية فريدة من عدة زوايا‮: ‬فمصر دولة إقليمية مركزية محورية في الإقليم الذي تقع فيه، وفي العالم الذي تشارك فيه، وهي دولة ممتدة،‮ ‬وشواطئها طويلة،‮ ‬وحدودها مفتوحة على جيرانها‮.‬ ونظرا لأهميتها الجيواستراتيجية،‮ ‬فهي مطمع دائم للقوي العظمي والكبري،‮ ‬بدءا من الامبراطوريات الرومانية،‮ ‬والبريطانية،‮ ‬والفرنسية، وانتهاء بمحاولات القوي العظمي توظيف القوي الناعمة لديها لاختراق الأمن القومي المصري‮. ‬وتصدق على مصر مقولة ريتشارد بولك في كتابه حول السياسة والحكم في الشرق الأوسط، وهي‮ "‬الموقع الجيواستراتيجي لمصر يدعو الدول للهجوم عليها‮". ‬وهكذا، فإن أهمية مصر قد تصير مصدرا لتعرضها للخطر، في الوقت‮  ‬ذاته الذي‮ ‬يعطيها ميزة فريدة لا تضاهيها دولة أخري في النظام الدولي الراهن‮. ‬ترتيبا على ذلك، فإن التطورات السياسية في مصر محل اهتمام العالم أجمع بصورة تدفع صانع القرار إلي أن يظل متأهبا ومنتهبا،‮ ‬حرصا على الأمن القومي المصري‮.‬
 
ثانيا‮- ‬ثورة‮ "‬30‮ ‬يونيو‮" ‬ومصادر تهديد الأمن القومي المصري‮:‬
 
من أهم الإسهامات التي قدمناها في دراسات الأمن القومي ما يتعلق برؤية مصادر التهديد‮. ‬ففي إطار النظرية التقليدية للأمن القومي، تم تقسيم التهديدات إلي تهديدات خارجية،‮ ‬وأخري داخلية،‮ ‬مع تركيز السياسات الأمنية في الأغلب الأعم على حشد قدرات الدولة لمواجهة الأولي أكثر مما يتم في مواجهة الأخيرة‮. ‬إلا أن التأمل في وزن وثقل مصادر التهديد يؤكد أنه في بعض الحالات،‮ ‬تتساوي خطورة المصادر الداخلية للتهديد مع المصادر الخارجية،‮ ‬وربما تزيد عليها‮. ‬ومن ثم، فإن استراتيجية المواجهة تتحدد بناء على مدي خطورة مصادر التهديد،‮ ‬بصرف النظر عن مصدرها‮. ‬في هذا الإطار،‮ ‬فإن ثورة الشعب المصري في‮ ‬30‮ ‬يونيو‮ ‬2013‮ ‬ضد النظام الثيولوجي السلطوي قد أدت إلي بلورة ووضوح تهديدات الأمن القومي المصري بصورة لم يسبق لها مثيل، وتؤكد مدي التشابك والترابط بين التهديدات الداخلية والتهديدات الخارجية، والتي يمكن إجمالها فيما يلي‮:‬
 
1- ‬إسرائيل بما تمثله من سلطة استيطان ليس فقط على الأراضي الفلسطينية، ولكن أيضا على الأراضي العربية، وأطماعها التقليدية تجاه سيناء، سواء كامتداد أرضي لإسرائيل، أو مكان إيواء للفلسطينيين،‮ ‬أو كمصدر بديل للمياه عبر المشروعات الصهيونية المتتالية،‮ ‬بدءا من القرن العشرين وحتي اليوم‮.‬ كما أن استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية،‮ ‬وجنوب لبنان،‮ ‬والجولان مدعاة لاستمرار عدم الاستقرار في المنطقة‮.‬ فضلا عن ذلك،‮ ‬فإن قدراتها النووية المتزايدة،‮ ‬وتحالفها مع تركيا من ناحية،‮ ‬والاحتمالات القوية لتحالفها مع إيران من ناحية أخري، علاوة على تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، تضيف إلي تهديداتها الدائمة للأمن القومي المصري‮.‬
 
2- ‬الإرهاب الذي تمارسه قوي الإسلام السياسي،‮ ‬فقد برزت خطط هذه القوي ليس فقط في تهديد الاستقرار والأمن الداخلي، وإنما أيضا تشتيت جهود وموارد الدولة المصرية من محاولة الانطلاق إلي حالة الركود‮.‬ والإرهاب الذي تمارسه هذه القوي ليس مدفوعا بخطط محلية أو داخلية، ولكنه بالتأكيد يعود إلي استراتيجيات إقليمية ودولية‮.‬ رغم تناقض المصالح بينها،‮ ‬فإنها اتفقت على تهديد كيان الدولة المصرية، وهي الدولة القومية التي أنشئت قبل نشأة الدولة القومية في أوروبا عام‮ ‬1648‭.‬‮ ‬فمما لا شك فيه أن القوي المنتمية إلي الإخوان،‮ ‬والجهاديين،‮ ‬والتكفيريين،‮ ‬والجماعة الإسلامية،‮ ‬وبقايا وفلول القاعدة،‮ ‬والمتمركزين في‮ ‬غالبيتهم في سيناء،‮ ‬مرتبطة تنظيميا وماليا وتكتيكيا بقوي خارجية كالتنظيم الدولي للإخوان،‮ ‬أو بعض التنظيمات الأخري التي تتبني العنف كوسيلة لتحقيق أهدافها، أو الدول الطامعة في الدور المصري‮.‬ وتقوم استراتيجية هذه القوي على تشتيت قدرات وطاقات وموارد الدولة المصرية من ناحية، وخلق حالة عدم أمان لدي المواطنين والأجانب من ناحية أخري‮. ‬ففي هذه الحالة، يتم إهدار الموارد النادرة وغير الموجودة بصورة كافية، ومنع تدفق موارد إضافية،‮ ‬سواء بطريق الاستثمار الأجنبي المباشر،‮ ‬أو بطريق السياحة،‮ ‬بما يؤدي إلي تعقيد المشكلة الاقتصادية،‮ ‬ودفع الدولة إلي تكثيف عناصر الحرمان الاقتصادي،‮ ‬بما يعنيه من زيادة مصادر التهديد للأمن القومي المصري‮.‬
 
3- ‬التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل،‮ ‬وتركيا،‮ ‬وإيران، فقد سبق أن أكدنا،‮ ‬قبل وبعد الثورة الإسلامية في إيران، وقبل وبعد وصول الإسلاميين إلي الحكم في تركيا، أن هناك مصالح استراتيجية بين كل من إيران،‮ ‬وتركيا،‮ ‬وإسرائيل تستهدف، بالإضافة إلي تحقيق المصالح القومية لهذه الأطراف الثلاثة، تهديد الأمن القومي المصري،‮ ‬ومحاولة تحجيم الدور الإقليمي المركزي لمصر،‮ ‬واحتوائه في كل من الوطن العربي والشرق الأوسط‮.‬ والحقيقة أن إيران، حتي في ظل ما يسمي بالحكم الإسلامي،‮ ‬تسعي سعيا حثيثا إلي إنشاء الإمبراطورية الفارسية، وهي توظف المذهبية الدينية، سواء في دول الخليج العربية،‮ ‬أو في سوريا،‮ ‬أو في لبنان،‮ ‬أو في قطاع‮ ‬غزة، من أجل الوصول إلي هذا الهدف‮.‬ وهي،‮ ‬في هذا الشأن،‮ ‬لا تشعر بأي خجل من التحالف مع الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال مع إسرائيل‮.‬ كما أن تركيا تحاول، في سبيل توثيق علاقاتها بالولايات المتحدة، ومحاولة الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، أن تسيطر على الوطن العربي والشرق الأوسط،‮ ‬من خلال إعادة إحياء الخلافة الإسلامية بالمفهوم السني، وهي بذلك تحل محل الدولة المصرية في المجال الحيوي لمصر‮.‬ وفي هذا الشأن، وقعت تركيا مع إسرائيل مجموعة من اتفاقيات التعاون الاستراتيجي،‮ ‬وعلي رأسها إجراء المناورات العسكرية المشتركة بين الطرفين‮.‬ كما أنها سعت، كعضو نشط في حلف الأطلنطي، إلي مد رعاية الحلف إلي دول الخليج في إطار ما يسمي بمبادرة اسطنبول‮.‬ وقد لعبت أيضا دورا مهما في توظيف حلف الأطلنطي ضد النظام الليبي السابق، وحاولت استخدامه ضد النظام السوري الراهن‮.‬ وفوق ذلك،‮ ‬فإن كلتا الدولتين‮ (‬إيران وتركيا‮) ‬تحاول تطويق الدور المصري التقليدي في إفريقيا، وذلك بالتوسع المالي والاقتصادي في دول حوض النيل بصفة أساسية‮.‬ ولا شك في أن بلورة هذا الموقف العدائي من الدولة المصرية عقب ثورة‮ ‬30‮ ‬يونيو قد برزت واضحة في موقف الدولتين المعادي لتلك الثورة،‮ ‬والمؤيد تأييدا‮ ‬غير محدود لجماعات الإرهاب،‮ ‬سواء في سيناء،‮ ‬أو في أنحاء مصر المختلفة، أو تأليب الدول والمنظمات الدولية ضد النظام المصري الجديد‮.‬ ومن المتوقع أن يزداد هذا التحالف الاستراتيجي حدة، ومن ثم عداء، بما يشكل تهديدا واضحا للأمن القومي المصري‮.‬
 
4- قضية تدفق مياه نهر النيل،‮ ‬إذ لا يمكن لأحد أن يشكك في مقولة هيرودوت بأن مصر هبة النيل‮.‬ صحيح أن أستاذنا المرحوم الدكتور جمال حمدان قال،‮ ‬في موسوعته الشهيرة‮ "‬شخصية مصر‮"‬، إن مصر هبة المصريين، إلا أنه لا يوجد تعارض بين المقولتين‮.‬ ومن ثم،‮ ‬فإن الأمن القومي المصري في جزء كبير منه يبني على استمرار تدفق مياه النيل بالصورة التي تم الاتفاق عليها بين مصر ودول حوض النيل منذ عام‮ ‬1902‮ ‬حتي منتصف الخمسينيات،‮ ‬حيث تم الاتفاق الطوعي بين الدول الثماني في اتفاقيات دولية موثقة على ألا يقل نصيب مصر عن‮ ‬55‭.‬5‮ ‬مليار متر مكعب سنويا‮.‬ وتقضي قواعد القانون الدولي بأنه لا يجوز لدول المنبع أن تتخذ من الإجراءات،‮ ‬أو تقيم من المشروعات ما يغير الطبيعة الهيدروليكية أو الكيميائية للمياه،‮ ‬أو التأثير بأية صورة في تدفقها إلي دول المصب‮.‬ كما تقضي القواعد ذاتها بأنه لا يجور لدول المصب أن تستخدم المياه في‮ ‬غير الأغراض التي تم الاتفاق عليها كإعادة توزيعها إلي دول أخري مجاورة،‮ ‬أو بيعها،‮ ‬أو حتي تغيير طبيعتها‮.‬ والحقيقة أن اتفاق‮ ‬غالبية دول حوض النيل على إعادة النظر في الاتفاقيات المعمول بها،‮ ‬بقصد إعادة توزيع حصص المياه، والتي يقصد منها بالأساس تقليل حصة مصر، أخذ سبيله في ظل الحكم الثيولوجي السلطوي، وإن صار أكثر تعقيدا عقب ثورة‮ ‬30‮ ‬يونيو،‮ ‬حيث بدأت إثيوبيا بالفعل في بناء سد النهضة، الذي من المتوقع أن يقلل حصة مصر من مياه النيل إلي أقل من النصف، بما يعنيه ذلك من آثار اقتصادية مدمرة على مصر والمصريين، خصوصا أن دور المياه الجوفية ومياه الأمطار في سد حاجات المواطنين يعد محدودا للغاية‮.‬ كما أن البدائل الأخري إما ذات تكلفة لا يمكن تحملها، أو ذات أبعاد سياسية،‮ ‬يصير من الصعب التعامل معها‮.‬ ويتعدي التأثير السلبي في الأمن القومي المصري تدني نصيب الفرد المصري من المياه، ووصوله إلي حد الفقر المائي، ويصل إلي التأثير فيما لدي المصريين من حاجات أساسية تتمثل بصورة خاصة في الحبوب وغيرها من المنتجات الزراعية‮.‬ وفوق ذلك،‮ ‬فإن تصاعد حدة هذه الأزمة يمكن أن يؤدي إلي عواقب عسكرية بين مصر من جانب،‮ ‬وإثيوبيا من جانب آخر‮.‬
 
5- ‬التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو التحالف الموجه أساسا ضد الدولة المصرية،‮ ‬ويمتد إلي الوطن العربي‮. ‬فالولايات المتحدة الأمريكية تعهدت في أكثر من وثيقة منفردة وثنائية بضمان أمن إسرائيل،‮ ‬دون النظر إلي حل القضية الفلسطينية،‮ ‬أو انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة‮.‬ يضاف إلي ذلك أن الولايات المتحدة ترعي التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل،‮ ‬وإيران،‮ ‬وتركيا بصورة تخلق تهديدا مباشرا للمصالح القومية المصرية وأمنها الوطني‮.‬ كما أن مشروعات الولايات المتحدة المتعلقة بإنشاء شرق أوسط جديد، والتي سبق أن أعلنت عنها كوندليزا رايس،‮ ‬وزير الخارجية الأسبق،‮ ‬في بيروت عام‮ ‬2006‮ - ‬والتي تم تفصيلها في دراسات نشرت في مجلة القوات المسلحة الأمريكية عام‮ ‬2007‮- ‬2008‮ - ‬ترمي إلي تجزئة الدول الواقعة في المجال الحيوي المصري على أسس دينية،‮ ‬أو عرقية،‮ ‬أو مذهبية،‮ ‬بما يزيد من احتمالات الحروب الإقليمية، وبما قد يدفع الدولة المصرية إلي استخدام قواتها المسلحة في هذا الشأن‮.‬ وعلي الرغم من أننا ننظر إلي هذا التحالف بحسبانه تهديدا ثانويا،‮ ‬أي تابعا للتهديدات الرئيسية الأربعة السابقة، فإن خطورته تكمن في ديمومته واستدامته، بصرف النظر عن تغير الإدارة في الولايات المتحدة، وهو ما يعني أنه تحالف مؤسسي، وليس تحالفا سياسيا‮.‬
 
7- ‬حالة الضعف العام في النظام الإقليمي العربي، لا يغرب عن البال مدي انعكاس حالة الضعف والتجزئة والانهيار،‮ ‬التي تصيب بعض أركان النظام الإقليمي العربي،‮ ‬علي الأمن القومي المصري‮. ‬فمن نافلة القول تأكيد الارتباط العضوي بين الأمن القومي العربي والأمن القومي المصري‮.‬ فلأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، نجد تدهورا في مفهوم الدولة، وليس النظام، في عدد من الدول العربية الرئيسية، منها ما يعد بالضرورة ضمن المجال الحيوي المصري‮. ‬فقد تحول العراق من دولة بسيطة إلي دولة فيدرالية على أعتاب الانهيار، وتم تقسيم السودان إلي شمال وجنوب كخطوة أولي نحو مزيد من التجزئة، وها هي ليبيا لم تعد دولة بسيطة، كما أنها لم تتحول إلي فيدرالية، وقد ينتهي بها الأمر إلي أن تصير، على أحسن تقدير، دولة كونفيدرالية، وانتقل اليمن من دولة موحدة إلي ستة أقاليم تكاد تكون منفصلة بعضها عن بعض،‮ ‬علي الرغم من وجود حكومة مركزية في صنعاء حتي الآن‮.‬ وقد ينجم عن الحرب الأهلية في سوريا تقسيمها إلي دولتين،‮ ‬أو‮ - ‬علي الأقل‮ - ‬إقليمين متنازعين لا رابطة بينهما‮.‬ كما أن الشقاق داخل دول مجلس التعاون الخليجي بين أعضائه الخمسة من ناحية، ودولة قطر من ناحية أخري،‮ ‬يهدد بإضعاف منطقة الخليج في مواجهة إيران، فضلا عن احتمالات الشقاق في المغرب العربي بين العرب من ناحية،‮ ‬والبربر من ناحية أخري‮.‬ أما على الحدود الشرقية لمصر، وهي المنفذ التاريخي لمصادر التهديد الفعلية للأمن القومي المصري،‮ ‬فهناك الصراع المقيت بين حماس التي تحكم قطاع‮ ‬غزة من ناحية، والسلطة الوطنية الفلسطينية،‮ ‬ممثلة الشعب الفلسطيني من ناحية أخري، والذي‮ ‬يلقي بظلاله، من خلال علاقات المصالح المتبادلة بين حماس وقوي الإرهاب المتمركزة في سيناء، على الأمن القومي المصري، إضافة إلي الشلل الذي أصاب جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية أنشئت منذ عام‮ ‬1945،‮ ‬ولم يعد لها دور حقيقي في استنهاض مفاصل النظام الإقليمي العربي‮.‬ وفي الوقت الذي لعبت فيه مصر تاريخيا دور المحفز على الانسجام والتكامل‮ ‬Centripetal Force‮ ‬،‮ ‬فإن مكونات وأطراف النظام العربي لعبت بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل دورا مختلفا‮ ‬Centrifugal Force، فهل تعود مرة أخري بعد ثورة‮ ‬30‮ ‬يونيو إلي دورها التكاملي الطبيعي؟‮.‬
 
ثالثا‮- ‬القدرات المصرية لمواجهة مصادر التهديد‮:‬
 
علي الرغم من الإجماع الشعبي المصري على ثورة‮ ‬30‮ ‬يونيو،‮ ‬وما ترتب عليها من التحرر من النظام الثيولوجي السلطوي، فإن العناصر المنتمية إلي جماعة الإخوان وقوي الإسلام السياسي لا تزال تعكر صفو الاستقرار الوطني، وذلك بتوظيف الإرهاب لخلق حالة ارتباك قومي،‮ ‬وتشتيت قدرات الدولة المصرية بغرض إسقاطها، وبصفة خاصة المؤسسات السيادية كالقوات المسلحة،‮ ‬والشرطة،‮ ‬والقضاء،‮ ‬وأجهزة المخابرات‮.‬ بيد أن الإجماع الشعبي للحفاظ على كيان الدولة المصرية وهويتها التاريخية يستطيع أن يحول موارد الدولة إلي قدرات لمواجهة هذه المصادر الرئيسية للتهديد‮.‬ وتتمثل الموارد المصرية في‮ ‬90‮ ‬مليونا من المواطنين،‮ ‬يمثل الشباب منهم ممن هم في سن العمل نحو‮ ‬65٪‮.‬ وتغطي مساحة مصر ما يزيد على مليون كيلو متر مربع، يقطن السكان فيها ما يقل عن‮ ‬7٪، وهي المساحة المنزرعة، والموارد الاقتصادية المتمثلة في الزراعة،‮ ‬والخدمات،‮ ‬والصناعة،‮ ‬وبعض مظاهر السياحة، والقدرات العسكرية النابعة من وجود قوات مسلحة عصرية،‮ ‬تتعدي‮ ‬350‮ ‬ألف فرد، وتقوم سنويا بمناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وعدد من الدول العربية الشقيقة، وبصفة خاصة الإمارات العربية المتحدة‮.‬
 
ومن المعلوم أنه منذ ثورة يناير‮ ‬2011‮ ‬حتي اليوم، ونظرا لمرور الدولة بالمرحلة الانتقالية بما تعنيه من إحساس بالتأقيت دون الشعور بالديمومة،‮ ‬فقد تأثر بالفعل الاقتصاد المصري، سواء بالنظر إلي ندرة الاستثمار الأجنبي المباشر،‮ ‬أو عوائد السياحة،‮ ‬أو المساعدات الأجنبية‮ ‬غير العربية، وإن كانت المساعدات العربية من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة قد عوضت هذا النقص وتلك الندرة‮.‬ ومع ذلك،‮ ‬فإن القصور في الموارد الاقتصادية جلي للجميع‮.‬ ويستلزم وضع هذه الموارد معا،‮ ‬وتحويلها إلي قدرات تضيف إلي استعدادات لمواجهة مصادر التهديد توافر الإرادة السياسية لدي صانعي القرار لتوظيفها بصورة رشيدة وفعالة‮.‬ وعلي الرغم من هذه المرحلة الانتقالية بخصائصها المعلومة من عدم اليقين،‮ ‬وعدم الوضوح،‮ ‬وعدم الالتزام، فإن الإرادة السياسية النابعة عن الأغلبية الفاعلة أدت يقينا إلي تحويل الموارد المصرية إلي قدرات تستخدم في مواجهة مصادر التهديد، وإن كانت الأولوية الآن تعطي لحصار الإرهاب،‮ ‬ومحاولة اجتثاث بذوره،‮ ‬حيث لا تنمية، فضلا عن التقدم، دون أمن وأمان واستقرار‮.‬
 
رابعا‮- ‬السياسات الأمنية لتحقيق الأمن القومي المصري‮:‬
 
يتولي مجلس الأمن القومي تزويد صانع القرار بمقومات السياسات الأمنية، ويأتي على رأسها تقدير الموقف داخل وخارج الوطن، وتحديد مصادر التهديد الرئيسية والثانوية، وطرح مختلف البدائل، ثم وضع استراتيجيات المواجهة‮.‬ وفي هذا الإطار، تتعاون أجهزة المعلومات، سواء كانت المخابرات العامة،‮ ‬أو المخابرات الحربية،‮ ‬أو الأمن الوطني، بالإضافة إلي بعض الأجهزة الأخري التي تختص بالأبعاد الديموجرافية والجيواستراتيجية‮. ‬في هذا العمل المتكامل والمتشابك، ولكي تزداد مصداقية وفاعلية رسم السياسات الأمنية، يشترك في الإعداد لها أيضا ممثلو السلطة التشريعية،‮ ‬وممثلو السلطة التنفيذية المعنيون، وكذلك الخبراء في مختلف فروع وحقول الأمن القومي‮.‬
 
يقتضي نجاح السياسات الأمنية ليس فقط القدرة على توفير الموارد المالية اللازمة لتنفيذ الاستراتيجيات المقترحة، وإنما أيضا تعبئة المواطنين،‮ ‬وجماعات الضغط،‮ ‬وجماعات المصالح،‮ ‬ومختلف القوي السياسية من أجل مساندة هذه السياسات‮. ‬وربما يكون من المفيد في إطار رسم السياسات الأمنية لمواجهة مصادر التهديد الآنية والآجلة أن نطرح بعض ملامح التعاون بين مصر والدول الفاعلة في الوطن العربي ودول الجوار الإفريقي لتهيئة المناخ العام لنجاح تلك السياسات، وذلك على النحو التالي‮:‬
 
‮❊ ‬تحقيق الإجماع الوطني فيما يتصل بتخصيص وتوزيع موارد السياسات العامة، بما في ذلك الموارد السياسية،‮ ‬والاقتصادية،‮ ‬والاجتماعية‮. ‬ففي رسم ووضع السياسات العامة،‮ ‬لا يكفي اتفاق الأغلبية، وإنما لا بد أن يصل المجتمع إلي مرحلة الإجماع الوطني، وهي مرحلة نادرة لا تحدث إلا في إطار الأزمات القومية‮. ‬فقد حصل الرئيس الأمريكي الأسبق،‮ ‬ريجان،‮ ‬علي الإجماع الوطني إزاء مبادرة الدفاع الاستراتيجي الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي السابق عام‮ ‬1982،‮ ‬والتي أودت به تماما عام‮ ‬1991‭.‬‮ ‬وحصل جورج بوش على الإجماع القومي عقب أحداث‮ ‬11‮ ‬سبتمبر‮ ‬2001،‮ ‬وإن كان قد أساء توظيفها بصورة أدت فيما بعد إلي بداية انهيار الاقتصاد الأمريكي‮.‬ وحصل الرئيس الراحل عبد الناصر على الإجماع القومي لإعادة بناء القوات المسلحة المصرية عقب نكسة‮ ‬67،‮ ‬ووظفه السادات بعده في حرب‮ ‬73‮ ‬لتحرير سيناء‮.‬
 
إن مواجهة مصادر التهديد الرئيسية تستلزم شحذ الهمم، وتعبئة الموارد القومية،‮ ‬وعلي رأسها الموارد البشرية لردها والتصدي لها‮.‬ ويتطلب الإجماع القومي في هذا الشأن الاتفاق على استراتيجية المواجهة، وتخصيص الموارد المالية اللازمة لمواجهتها، والاستعداد للتضحية من أجل بقاء الدولة،‮ ‬والحفاظ على الهوية،‮ ‬وضمان مستقبل أفضل للمواطنين، وهي تتطلب قرارات مصيرية رشيدة في ظروف قاسية وصعبة‮.‬ وفوق ذلك،‮ ‬تستلزم وجود قيادة سياسية واعية لديها رؤية واضحة،‮ ‬وتتمتع بدرجة عالية من القبول الشعبي‮.‬ ولكي تصير حتمية الإجماع القومي أكثر وضوحا، فإن علينا أن نعي أن مصادر التهديد الرئيسية والثانوية متشابكة مترابطة ومتعاونة معا، وربما تتفق على استراتيجيات التهديد لمصر والمصريين، ومن ثم يصير الإجماع الوطني في مواجهتها حتمية تاريخية‮.‬
 
‮❊ ‬مجلس التعاون العربي، وهو مجلس يضم إلي جانب مصر، وكمرحلة أولي، كلا من السعودية،‮ ‬والإمارات،‮ ‬والبحرين،‮ ‬والكويت،‮ ‬وعمان،‮ ‬والأردن، على أن يتم ليس فقط التنسيق في السياسات الخارجية لهذه الدول، وإنما أيضا إنشاء جيش مشترك،‮ ‬وقيادة عسكرية موحدة لتحقيق التكامل العسكري بين هذه الدول،‮ ‬ولمواجهة مصادر التهديد الذي يتعرض له الوطن العربي من حدوده الشرقية، ويعمل هذا المجلس في إطار الاتحاد العربي‮.‬
 
‮❊ ‬الاتحاد العربي،‮ ‬حيث لم تعد جامعة الدول العربية، التي أنشئت في إطار الحرب الباردة،‮ ‬قادرة على الارتقاء بذتها ووظائفها ومؤسساتها لمواجهة التحديات العصرية، سواء كانت تتعلق بالوطن العربي،‮ ‬أو بمنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة‮.‬ ومن ثم،‮ ‬فإنه ينبغي التفكير في تحويلها إلي الاتحاد العربي، الذي يبني على مؤسسات جديدة،‮ ‬ويقوم بوظائف حديثة تستجيب للتغيرات الاقتصادية،‮ ‬والسياسية،‮ ‬والعسكرية التي تحيط بالوطن العربي‮.‬ وفي هذا الإطار الجديد، لا بد من تفعيل معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية، والتي تم توقيعها عام‮ ‬1950‮ ‬بين الدول الأعضاء في الجامعة، والتي تتضمن قيادة عسكرية مشتركة،‮ ‬بالإضافة إلي التنسيق العسكري والتعاون الاقتصادي بين هذه الدول‮.‬ ويضاف إليها،‮ ‬في إطار الاتحاد العربي،‮ ‬مجلس الأمن القومي العربي الذي يتشكل من مستشاري الأمن القومي في الدول العربية، وتكون مهمته تقديم استراتيجيات،‮ ‬وخطط ومهام الحفاظ على الأمن القومي العربي إلي مؤسسة القمة العربية‮.‬
 
‮❊ ‬مجلس تعاون حوض النيل، وهو الذي يضم الدول الثماني الأعضاء في حوض النيل، ويمكن أن يضاف إليها إريتريا والصومال‮.‬ وليس المقصود منه فقط تحقيق وفاق فيما يتعلق بتوزيع مياه النيل،‮ ‬وضمانها لمختلف هذه الدول، وإنما أيضا التنسيق بينها فيما يتصل بالتنمية المستدامة،‮ ‬وتحقيق التكامل الزراعي فيما بينها‮.‬ وهناك احتمالات‮ ‬غير محدودة للتنمية الزراعية في هذه الدول،‮ ‬بدءا من السودان وغيره من أعضاء هذا المجلس،‮ ‬يمكن أن تصير فرصة لسد احتياجات الدول من الحبوب،‮ ‬وعلي سبيل المثال، ويعمل هذا المجلس في إطار الاتحاد الإفريقي‮.‬
 
‮❊ ‬توسيع عضوية مجلس التعاون الخليجي، حيث يتكون المجلس كما نعلم من السعودية،‮ ‬والإمارات،‮ ‬والبحرين،‮ ‬والكويت،‮ ‬وعمان،‮ ‬وقطر‮.‬ وعلي الرغم من تطور المجلس،‮ ‬خصوصا فيما يتصل بحرية التنقل،‮ ‬والتملك،‮ ‬والتجارة،‮ ‬والاستثمار بين مواطني هذه الدول الست، وعلي الرغم من وجود قوات درع الجزيرة، وهي قوات مشتركة بين هذه الدول، فإن الخلافات الحادة بين الدول الخمس الأولي وقطر من ناحية، وحدة التهديدات الإيرانية عليها من ناحية أخري، تبرر ضرورة توسيع عضوية المجلس،‮ ‬لكي تضم كأعضاء منتسبين كلا من مصر،‮ ‬والأردن كمرحلة أولي،‮ ‬يمكن أن تلحق بهما دول عربية أخري‮.‬ إن هذه التوسعة تضيف إلي قدرات أعضائه الأصليين،‮ ‬كما أنها تشكل رادعا إلي حد كبير لإيران وغيرها من مصادر التهديد المحتملة‮.‬
 
خامسا‮- ‬الأمن القومي المصري وتكامله مع الأمن القومي العربي‮:‬
 
يتضح مما سبق مدي الترابط والتشابك بين الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي فيما يتعلق بمصادر التهديد، وتكتل القدرات، والقدرة على المواجهة، فضلا عن الإصلاحات المؤسسية اللازمة لانتشال النظام الإقليمي العربي من الوهن الذي ينتقص من مستوي الأمن وكثافته‮. ‬وعلي الرغم من توقيع بعض الدول العربية الأعضاء في هذا النظام الإقليمي، وفي المؤسسات المقترحة، اتفاقات استراتيجية مع دول عظمي أو كبري،‮ ‬فإن ذلك لا يضع قيدا على احتمالات رسم سياسات أمنية مشتركة بين مصر وهذه الدول‮.‬
 
فليس هناك تعارض بين العلاقات الثنائية للأقطار العربية بدول أجنبية والتنسيق الجماعي بين هذه الدول، لأن المصلحة القومية العليا هي المحرك الرئيسي لسلوك هذه الدول في المرحلة القادمة‮. ‬من ثم،‮ ‬ينبغي التشديد على أن الأمن القومي العربي هو حاصل جمع الأمن الوطني لكل دولة عربية‮.‬ وهكذا،‮ ‬فإن قدرة المؤسسات العربية الجديدة على مواجهة مصادر التهديد تعني الإعلاء من مستوي الأمن القومي العربي،‮ ‬والأمان الإنساني للمواطن العربي‮.‬
طباعة

تعريف الكاتب

د. عبدالمنعم المشاط

د. عبدالمنعم المشاط

عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة المستقبل.