لا نطلب من الرأسماليين المصريين أن يكونوا أبطال الدعوة للديمقراطية فى مصر، ولا أن يخاطروا بمعارضة الحكومة عندما تقيد الحريات المدنية والسياسية. كل ما نرجوه هو ألا يكونوا عقبة أمام التطور الديمقراطى إن جاء أجله. وسبب هذا المطلب المتواضع أن التطورات الجارية سواء فى إعادة تشكيل الخريطة الإعلامية أو فى مساندة بعض الأحزاب توحى بأن سلوك بعض كبار الرأسماليين فى مصر يباعد ليس بين مصر واحتمالات التطور الديمقراطى فحسب، ولكنه يهدد ممارسة بعض أبسط الحقوق التى تلتزم سلطات الدولة فى مصر بحكم دستورها ومعاهدات دولية صدقت عليها بضمان ممارستها من جانب المواطنين.
وهناك سبب أعمق لهذا المطلب المتواضع وهو أنه لم يعد كثيرون لا فى العالم الخارجى ولا فى مصر يصدقون تلك المقولة التى شاعت زمنا بأن الرأسماليين يناضلون من أجل الديمقراطية، وأنه لا أمل فى أن تسود الديمقراطية فى بلد لا توجد فيه رأسمالية.
الارتباط التاريخى بين الرأسمالية ونشأة نظم ديمقراطية فى غرب أورويا وتحديدا فى كل من بريطانيا وفرنسا هو وليد ظروف خاصة، كانت الطبقة الرأسمالية الصاعدة تجاهد للحلول محل طبقة النبلاء الأرستقراطية لتولى الحكم أو على الأقل للمشاركة فيه، ولكنها لم تكن تناضل لكى يشارك باقى الشعب فى ممارسة السلطة السياسية أو حتى التأثير عليها، والدليل على ذلك أنه بعد انتصار الثورة الديمقراطية فى البلدين ترددت الطبقة البُرجُوازية الحاكمة فيهما فى منح الطبقة العاملة الناشئة الحق سواء فى تكوين نقابات عمالية أو أحزاب اشتراكية تتحدث باسمها، وهو ما لم يتم حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
دعونا من هذه القضية التاريخية والفلسفية، ولكن فلنتخل عن أى وهم بأن الطبقة الرأسمالية الصاعدة فى مصر يمكن أن تكون قوة دافعة للتطور الديمقراطى. لا حاجة لإجراء دراسات حول هذا الأمر، فهناك شواهد تاريخية ومعاصرة تبين أولا أن هذه الطبقة لم تكن موحدة الموقف تجاه أى من نظم الحكم التى تعاقبت على مصر منذ حصولها على قدر من الاستقلال فى 1922 ثم 1936.
كان كبار أصحاب العمل يؤيدون أحزاب الأقلية التى ساندت الملكية، بل كان إسماعيل صدقى أبرز قادة هذه الأحزاب والذى عرف بقبضته الحديدية وتعديلاته الدستورية المقيدة للحريات رئيسا للبنك الأهلى وعضوا فى مجالس إدارة العديد من الشركات، بينما ناصر رأسماليون أقل شأنا حزب الوفد الذى كان فى ذلك الوقت، وكما هو معروف، حزب الأغلبية بلا منازع، ونصير الحريات المدنية والسياسية. وعندما عادت مصر لتمر بتجربة التعددية المقيدة تحت حكم الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك التف كبار الرأسماليين حول كل منهما، ولا عجب فى ذلك فقد سعى كل منهما إلى تشجيع القطاع الخاص وتفكيك الأساس الاقتصادى لنظام جمال عبدالناصر الذى كان يرفع شعارات اشتراكية. ومع ذلك فقد ظهر تيار بين كبار الرأسماليين فى مصر فى أواخر عهد مبارك لم ينضم للحزب الوطنى الديمقراطى الذى كانت عائلة مبارك تديره، وحافظ على مسافة فصلته عن هذا الحزب، بل وأقام مؤسسات صحفية وإعلامية أفسحت مجالا واسعا لعرض وجهات نظر متعددة، ولاشك أن الصحافة وقنوات التليفزيون المستقلة التى أسسها قادة هذا التيار كان لها دورها فى كشف سوءات نظام مبارك والتمهيد من ثم لثورة يناير 2011 التى أودت بحكمه، كما نرى هذا الانقسام بين الرأسماليين المصريين فى الوقت الحاضر، فعلى حين هرع كثيرون منهم للمشاركة فى تأسيس أحزاب تتلخص كل مواقفها السياسية فى تأييد كل ما يريده الرئيس السيسى ووجهوا الصحف وقنوات التلفزيون التى يملكونها للإشادة بالرئيس والتهجم على كل من يتصورون أنه لا يشاركهم مواقفهم وحجب الأقلام والأصوات المستقلة عن هذه الصحف والقنوات، أصرت قلة أخرى على دعم حزب وائتلاف معارض للحكومة وإن كان لا يعارض الرئيس السيسى، وسمحت بقدر أكبر من التنوع فى وجهات النظر والمواقف السياسية عبر هذه الصحف والقنوات.
ولذلك فسوف يكون قفزا على هذا الواقع أن يتطلع أنصار التطور الديمقراطى فى مصر إلى أن يكون الرأسماليون المصريون هم قادة الدعوة إلى هذا التطور أو على الأقل من بين القوى الداعية له، وليس فى هذا الفهم أى تجن على الرأسماليين المصريين، فالتحول إلى معارضة النظام القائم مخاطرة كبيرة، وهم بكل تأكيد يعرفون حجم هذه المخاطرة. يكفيهم تأمل ما جرى للرأسمالية التجارية التى كانت تؤيد الإخوان المسلمين والتى وضعت مؤسساتها تحت الحراسة، بل إن بعض من عانوا هذا المصير ولم يكونوا بالضرورة من أنصار الإخوان المسلمين، وكان لهم دورهم البناء فى إقامة مؤسسات صناعية ناجحة لا يستطيعون الحصول من سلطات الحراسة على دخل يكفى حاجاتهم المعيشية.
لا نريد لأى من الرأسماليين المصريين، وخصوصا هؤلاء الذين أقاموا مؤسسات توفر العمالة لعشرات الآلاف من المصريين، وتسهم فى توفير حاجات الاقتصاد من سلع رأسمالية أو استهلاكية أو خدمات أساسية، ومن استطاعوا اقتحام أسواق دولية سواء بالاستثمار أو التصدير أن يجازفوا بمعارضة النظام القائم ولا حتى أن يتخلوا عن تأييد الرئيس السيسى لمن يتخذ هذا الموقف بالفعل، ولكن غاية ما يمكن أن يأمله أنصار التطور الديمقراطى منهم هو ألا يكونوا عقبة أمام مثل هذا التطور، وأن ينتصروا للحقوق التى هم فى أشد الحاجة لها فى الحاضر وفى المستقبل حتى يتوافر المناخ الملائم للنشاط الاقتصادى ولتوسعهم وزيادة ثرواتهم. ولكن بشرط أن يكون التمتع بهذه الحقوق متاحا لهم ولغيرهم من المواطنين على قدم المساواة.
أول هذه الحقوق هو العيش فى ظل دولة القانون والذى يعنى أن تلتزم سلطات الدولة باحترام قواعد القانون المنصفة والمتوازنة والتى صدرت لتحقيق مصلحة عامة وليس إرضاء لفئة محدودة من المواطنين أو لصالح واحدة من سلطات الدولة ذاتها. ويعنى العيش فى دولة القانون المعاملة الكريمة لكل المواطنين وعدم تقويض حرياتهم الشخصية بلا سند من القانون مثل إلقاء القبض على أحدهم فى الساعات المبكرة من الصباح وتصويره بموجب دعاوى هشة وإبقائه فى السجن بدون محاكمة ثم يثبت فيما بعد خطأ هذه الدعاوى، ولا يتلقى تعويضا عن هذه المعاملة المهينة.
كما يعنى العيش فى ظل دولة القانون استقلال القضاء وعدم التدخل فى شئونه أو التحايل عليها بإخراجها من اختصاصاته. من المعروف أن حكم القانون هو شرط اساسى للمناخ الملائم للاستثمار لأنه يمكِن المستثمر من أن يعرف خطواته وماذا يفعل لإدارة أعماله، وكيف يمكن له أن يسترد حقوقه إذا ما تعرضت للجور عليها، وكيف يمكن أن يسوى المنازعات بينه ومستثمرين آخرين أو إحدى سلطات الدولة.
وثانى هذه الحقوق هو الحق فى التنظيم، فلكل المواطنين حقهم فى أن يجتمعوا سلما وأن يقيموا منظمات تنهض بحقوقهم وتعبر عن مصالحهم واهتماماتهم. لأصحاب الأعمال أن يقيموا غرفا تجارية وصناعية وغيرها لا تخضع للتدخل المعوق من جانب أجهزة الإدارة، وتدير شئونها باستقلال، وأن تتفاوض مع منظمات العمال والعاملين على أوضاع العمل وتنظيمه. وهو الحق الذى تلتزم مصر بالوفاء به وفقا للاتفاقيات التى أبرمتها وصدقت عليها مع منظمة العمل الدولية، والذى صار موضع شك فى جدية الالتزام به لدى دوائر هذه المنظمة كما اتضح فى جلسات مؤتمرها الأخير. الوفاء بهذا الحق هو الذى يكفل رفع القيود على حرية واستقلال اتحاد الصناعات والاتحاد العام للغرف التجارية ويقلل من سيطرة ممثلى الحكومة عليها بما يكفل أن تصبح هذه المنظمات وغيرها ممثلا له مصداقيته وفعاليته لأصحاب الأعمال.
وثالث هذه الحقوق هو الحق فى حريات الرأى والتعبير بالمعنى الواسع لهذه الحقوق والذى يعنى الحق فى الحصول على المعلومات وتداولها ونشرها والتعبير عن الرأى بكل الوسائل ما دام أنه لا يتضمن إثارة الكراهية ضد آخرين أو الدعوة للعنف أو الإساءة إلى الشهرة. هذا الحق الأساسى من حقوق الإنسان هو ضرورى لأصحاب العمل حتى يتمكنوا من معرفة السياق الذى يعملون فيه، والبيانات الصحيحة عن الوضع الاقتصادى والاجتماعى والأمنى حتى يتخذوا قراراتهم وهم على بينة مما ينطوى عليه هذا السياق من فرص للكسب أو مخاطر وحجم هذه المخاطر.
قراءة صحف مثل فاينانشيال تايمز والإيكونوميست هو غذاء دائم لأصحاب الأعمال فى العديد من دول العالم. أستطيع أن اضرب أمثلة بصحف أخرى فى الولايات المتحدة أو سويسرا وهى البلاد التى أعرف عن صحافتها بعض الشىء. لاشك فى دفاع هذه الصحف المستميت عن الرأسمالية وعدائها للاشتراكية، ولكنها صحف ذات مصداقية فيما تنشر من أخبار وتقدم من تحليلات لأن صاحب العمل الجاد بحاجة لمن ينقل له أوضاع العالم بصدق وبتجرد حتى يعرف خطأه ولا يخطئ فى تصور المستقبل المفتوح أمام أعماله.
هذه الحقوق ضرورية لعمل الرأسماليين وهى ضرورية لكل المواطنين. ولذلك لا ننكر على الرأسماليين المصريين حقهم فى أن يتخذوا من المواقف السياسية ما يشاءون تأييدا للحكم القائم أو تحفظا على بعض سياساته أو حتى اعتراضا عليه، ولكن كاتب هذه السطور يأمل أن يضعوا مصالحهم هم فى المديين المتوسط والبعيد وهى مصالح تلتقى بكل تأكيد مع دفع التطور الديمقراطى فى مصر، ولذلك فإن انتصارهم لهذه الحقوق لهم ولكل المواطنين سوف يعزز فرص هذا التطور الذى يحقق صالح الوطن.
-----------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، 10-7-2016.