تصاعدت أزمة اللاجئين الفارين من مناطق الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، لتضاف إلي سلسلة "الاختبارات الكاشفة" لمعضلات الدولة القومية، والنظامين الإقليمي والدولي في مرحلة ما بعد الثورات. إذ فرض التدفق الهائل لملايين اللاجئين، خاصة من سوريا إلي الجوار الإقليمي، أو الدول الغربية، ضغوطا داخلية وخارجية علي الدول المضيفة التي واجهت معادلة صعبة بين الالتزام بالحقوق الإنسانية للاجئين، وفقا للاتفاقيات والمواثيق الدولية، وممارسة سياسات تحد من تأثير تدفقاتهم في أمنها وسيادتها.
أزمة اللجوء تلك وتبعاتها ليست هي الأولي من نوعها، سواء في منطقتنا العربية أو العالم، حيث عرف القرن العشرون أزمات لاجئين متعددة مع اشتعال الحروب والصراعات المسلحة، إبان الحربين العالميتين الأولي والثانية، أو حروب التسعينيات العرقية في أوروبا وإفريقيا. بل إن المنطقة العربية نالت نصيبا مؤثرا من أزمات اللجوء، كما الحال مع اللجوء الفلسطيني، الذي نتج -وللمفارقة- عن تأسيس دولة بالمنطقة عبر الاستيطان والهجرة (إسرائيل)، إضافة إلي كل من اللجوء الصومالي والعراقي، حيث جاء الأخير نتاجا للغزو الأمريكي لإسقاط نظام صدام حسين في عام .2003
ودون إغفال ما أحدثته موجات اللجوء السابقة من آثار متعددة في المنطقة العربية، لم تندمل جراحها حتي الآن، فإن الموجة الراهنة للاجئين في مرحلة ما بعد الثورات تطرح تأثيرات أكثر عمقا وامتدادا من داخل المنطقة إلي خارجها، ليس فقط لأن البلدان العربية، خاصة سوريا، صارت الأكثر تصديرا للاجئين، وإنما لطبيعة السياقات التي تتفاعل مع هذه الظاهرة الإنسانية لتشكل محددا لبناء سياسات الدول تجاهها.
فأولا، تشتبك موجة اللجوء الراهنة مع قائمة الأزمات غير مسبوقة التي تواجه الدولة القومية العربية، حيث أجلت الثورات ضد الأنظمة الاستبدادية البنية الهشة لهذه الدولة المتماهية مع السلطة. فما إن سقطت تلك الأنظمة، وزال الخوف عن الناس، حتي قفزت المشكلات الكامنة للدولة إلي السطح، كالعدالة، والهوية، والصراع علي الموارد. بل إن سلطة الدولة ذاتها صارت، مع نشوب الصراعات المسلحة، غير قادرة علي ممارسة سيادتها في بعض المناطق.
ثانيا، إن أزمة اللاجئين عمقت من وهن النظام الإقليمي العربي الذي بدت استجابته محدودة للأزمات الكبري في المنطقة في السنوات الخمس الماضية نتاجا لتشتت واستقطاب قواه الفاعلة، علي خلفية تباين المواقف والمصالح. ثم جاءت الصراعات المسلحة في كل من سوريا، وليبيا، واليمن لتعمق انكشاف ذلك النظام الإقليمي، سواء لمصلحة قوي إقليمية غير عربية (إسرائيل، وإيران، وتركيا) تطمح لتغيير موازين القوي في المنطقة، أو قوي غربية كبري بدا أنها تحدد أجندة المنطقة، حربا وسلما، وتتحكم نسبيا في موازين القوي في صراعاتها الداخلية.
ثالثا وأخيرا، ارتبطت أزمة اللاجئين بالهواجس الأمنية العالمية المتصاعدة، علي خلفية انتشار تنظيمات العنف الديني، كـ "داعش" وأشباهه، والتي مدت تهديداتها من الدول العربية إلي الدول الغربية المتقدمة، كما تجلي الأمر مع هجمات باريس في نوفمبر 2015، وبروكسل في مارس .2016 ولذا، اكتسبت قضايا الأمن غير التقليدي، كمكافحة الإرهاب، والجريمة غير المنظمة، والهجرة غير الشرعية، اهتماما عالميا أثر بدرجة أو أخري في صياغة السياسات الغربية، خاصة الأوروبية المنقسمة تجاه استيعاب اللاجئين من عدمه.