ارتبط صعود الدراسات الكمية في العلاقات الدولية ارتباطا وثيقا بتفوق النظرة النيوليبرالية، خاصة علي يد جوزيف ناي وروبرت كوهين منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين. فوفقا لتلك النظرية، يعد الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول هو العامل الأساسي لاستقرار النظام العالمي، حيث تقل نسبة نشوب الحروب نتيجة تبادل المنافع المشتركة. وحل ذلك التفسير محل نظرية "التوازن المهيمن" التي تبناها الواقعيون الجدد، والتي تقرن الاستقرار العالمي بوجود فاعل دولي مهيمن أو دولة كبري تقوم بتوزيع السلع العامة الدولية بين الدول، وتفصل في المنازعات. وعلي أساس الاعتماد المتبادل، باتت النظرة لمفهوم القوة في العلاقات الدولية ذات صبغة اقتصادية بالأساس، وليست عسكرية، كما أنها موزعة علي العديد من الفاعلين، وليست مركزية، بما يشكل حافزا للتعاون لا للصراع المسلح.
وفي ظل ذلك الاهتمام المطرد بالحسابات الاقتصادية في العلاقات الدولية، ظهر نوع جديد من طرق التقييم كمنهج دراسي يتوافق مع الطبيعة الرقمية للتحليل الاقتصادي، ألا وهي "مؤشرات الأداء"، والتي تعني تقييم أداء الدول والمؤسسات بطرق كمية إحصائية، أو طرق مقارنة تراتبية لمختلف الأنشطة والسياسات من قياس الفساد إلي معدلات السعادة. وتشير الدراسات الحديثة في هذا المجال إلي وصول عدد تلك المؤشرات إلي نحو 178 مؤشرا بدأت بتصنيفات القروض السيادية في ثلاثينيات القرن الماضي حتي تبلور أغلبها ما بين أعوام 1990 و.2005 وإجمالا، تلعب تلك المؤشرات ثلاثة أدوار رئيسية، الأول: تقييم سلوك الدولة، الثاني: ممارسة ضغط اجتماعي وثقافي لتغيير ذلك السلوك، حالة عدم الكفاءة، وأخيرا: ربط ذلك التقييم بممارسات دولية عديدة.
وهنا، سيتم التطرق لأحد أهم تلك المؤشرات، وهو "مؤشر مدركات الفساد Corruption Perceptions Index (CPI)" الذي تصدره سنويا منظمة الشفافية الدولية. ويتماشي هذا المؤشر مع النظرة الليبرالية الكلاسيكية الداعية إلي تقليص
دور الدولة في الأسواق، نتيجة عدم كفاءة ممثلي الحكومة في تلبية احتياجات السوق. ومن ثم، يرجع كثير من الليبراليين الجدد، كجوزيف ناي، عدم كفاءة الدولة إلي العديد من الأسباب الهيكلية المتعلقة ببيروقراطية الجهاز الحكومي، وأحد أخطر عيوب البيروقراطية هو
الفساد. ولعل ناي أعلن بوضوح تفضيله لطرق البحث الإمبريقية والرقمية التي من شأنها كشف الآثار السلبية للفساد علي التقدم الاقتصادي والسياسي، وانتقد ضمنيا، في الوقت نفسه، ذلك الشق النفسي والمعنوي المرتبط بتحليل توجهات وتفضيلات القادة السياسيين،
والأسباب التي تدفعهم للاستئثار بمنافع خاصة باستغلال السلطة العامة. ومن ثم، فإن الاعتماد علي التحليلات الرقمية، بجانب الاستقراء السياسي للأحداث، قد يفضي إلي منهج تكنوقراطي ينأي بنفسه عن الدخول في إشكاليات الأهداف المعنوية للقادة، ومفهوم الفضيلة
الأفلاطوني.
في هذا الإطار، يسعي المقال إلي الإجابة علي التساؤل الآتي: هل أسهم بالفعل مؤشر مدركات الفساد الخاص بمنظمة الشفافية الدولية في تدعيم آليات مكافحة الفساد، أم هو فقط علامة تجارية ترويجية لدور منظمة الشفافية؟. بعبارة أخري، هل يقدم مؤشر مدركات الفساد
جوابا منطقيا للتساؤل الآتي المستوحي من كتابات مارك بوكانان أم يؤكده: " لماذا يزداد الفاسدون فسادا والنزهاء نزاهة"؟!. ولأجل ذلك، سيتم كيفية بناء المؤشر وتطوراته، ثم طرح أبرز الإشكاليات الرئيسة التي يثيرها، إضافة للتعرض لبعض الممارسات الدولية المرتبطة
بالمؤشر.