تعد المنطقة العربية إحدي أهم المناطق التي ظل الفاعلون فيها، سواء الدول أو غير الدول، محل رصد وتقييم من قبل مختلف المؤشرات والمقاييس الدولية، في حين ظل إسهام المنطقة نفسها في صياغة مؤشر أو مقياس يعبر عنها ويتواءم مع خصوصيتها محدودا. ومن ثم، تسعي الورقة إلي مناقشة أحد أهم المقاييس وأكثرها انتشارا، وهو نموذج تقرير التنمية الإنسانية العربية، والذي يصدر برعاية البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة - UNDP في إطار التقارير الإقليمية التي تقوم المنظمة بإصدارها بشكل دوري تحت مظلة تقرير التنمية البشرية، بهدف مناقشة وتقييم مختلف القضايا التنموية، وقياس مدي تقدم الدول في تحقيق التنمية والتقدم من خلال مؤشرات معينة.
وتحاول الورقة مناقشة المقاييس والمؤشرات التي اعتمد عليها تقرير التنمية الإنسانية العربية أو الإشكاليات المرتبطة بها، وتأثير ذلك في السياسات العربية، وكذلك سياسات الفاعلين الآخرين (الدول المانحة، المنظمات الدولية، ..) بخصوص قضايا التنمية في المنطقة العربية.
أولا- التنمية البشرية .. الأبعاد الأساسية للقياس:
قدم التقرير الأول، الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 1990، تعريفا محددا للتنمية البشرية، مفاده أنها " توسيع الخيارات المتاحة أمام الناس، فيعيشون حياة مديدة ملؤها الصحة، ويكتسبون المعرفة، ويتمتعون بمعيشة كريمة، إضافة إلي ممارسة الحرية السياسية، وضمان حقوق الإنسان، واحترام الذات". وفي إطار محاولة تبني البرنامج الإنمائي نظرة أشمل للتنمية من مجرد التركيز علي الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد منه، قدم التقرير مؤشر التنمية البشرية (HDI)، وهو عبارة عن مقياس مركب للصحة، والتعليم، والدخل لتقييم مستويات ودرجات التقدم بين مختلف الدول. وتضمن المؤشر - بالإضافة إلي مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي - مؤشر العمر المتوقع عند الولادة، ومؤشر معرفة القراءة والكتابة بين البالغين، ومؤشر مستوي التعليم من خلال معدلات الالتحاق بالمؤسسات التعليمية. ثم جاء تقرير 2010 ليقدم تغييرا جديدا يتعلق بالمؤشرات المستخدمة لقياس التعليم والدخل، وبطريقة تجمعهما.
حاول البرنامج الإنمائي التغلب علي الانتقادات التي واجهها فيما يتعلق بمدي شمول دليل التنمية البشرية وإغفاله لأبعاد مهمة، مثل تمتع الأفراد بالحقوق السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وفي هذا الصدد، تم استحداث ثلاثة مقاييس جديدة متعددة الأبعاد لعدم المساواة، والفوارق بين الجنسين، والفقر لتكوين صورة أشمل عن وضع وتطور التنمية البشرية في الدول المختلفة. وبدءا من عام 1992، تم الاتجاه إلي إصدار تقارير علي المستويين القطري والإقليمي. وكان أول تقرير قطري تم إصداره عن بنجلاديش، ثم ما لبث أن توسع البرنامج في إصدار تقارير مماثلة بدعم من المكاتب المحلية والإقليمية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مختلف دول العالم. وكان أول تقرير صدر خاصا بالمنطقة العربية في عام 2002، تحت عنوان "خلق الفرص"، وتوالي إصدار التقارير حتي تم إصدار خمسة منها ما بين عامي 2002 و 2009، ولكن تحت مسمي "التنمية الإنسانية" بدلا من "التنمية البشرية".