نشر المركز المصرى لبحوث الرأى العام (بصيرة) في دوريته الإلكترونية «رقم في حياتنا» الرقم التالى: بلغ عدد العاملين في الشركة المصرية للاتصالات ٥١ ألف عامل في عام ٢٠١٥، وهو ما يعادل تقريبا عدد العاملين في شركة «جوجل» العالمية؛ وتبلغ إيرادات المصرية للاتصالات 1.6 مليار دولار بينما إيرادات شركة جوجل ٧٤ مليار دولار. هذه أرقام سحرية على بساطتها، لأنها تدفعنا فورا إلى جوهر الأشياء وإلى التساؤل المهم: لماذا يوجد هذا الفارق الهائل في الإيرادات رغم أن عدد العاملين واحد تقريبا؛ وبالطبع لماذا هذا الفارق الهائل أيضا في السمعة الدولية بين شركة عالمية بالفعل هدفها «تنظيم المعلومات في العالم»، وأخرى محلية ناجحة نعم، إلا أن النجاح درجات؟ المدهش، وفقا للموقع الإلكترونى للشركة المصرية، أنها تأسست عام ١٨٥٤ تحت اسم الشركة الشرقية لكى تقوم بخدمة التلغراف الذي دخل مصر كواحد من أهم مخترعات القرن التاسع عشر، وله من التأثير ما كان بعد ذلك للإنترنت الذي أدخلته الشركة المصرية إلى مصر عام ١٩٩٢، أي قبل أربع سنوات من تأسيس شركة «جوجل» بواسطة لارى بيج وسيرجى برن.
كلتا الشركتين بدأت كشركة خاصة، ولكن الشركة المصرية قامت الحكومة بشرائها عام ١٩١٨ بمبلغ ثلاثة أرباع مليون جنيه؛ لم تقم بتأميمها، وإنما كان الشراء جزءا من بناء منظومة السكك الحديدية والتلغراف والتليفونات. «جوجل» بدأها فردان كمحرك للبحث عن المعلومات، وأصبحت شركة في عام ١٩٩٨ ثم أصبحت شركة عامة في البورصات العالمية اعتبارا من ٢٠٠٤، وأخيرا أصبحت شركة عالمية للمعلومات تحت اسم «الفابيت Alphabet» في عام ٢٠١٥. ورغم أن الشركة المصرية توسعت خلال هذه السنوات الطوال إلى مجالات التليفون الأرضى، ثم المحمول، والكابلات البحرية، والإنترنت، إلا أن مجال عملها ظل دوماً داخل مصر. هل نرصد هنا فارقاً مهماً، ليس فقط بين «جوجل» و«المصرية للاتصالات»، ولكن تقريبا بين كافة الشركات المصرية، خاصة وعامة، والشركات الكبرى في العالم، يقوم على الأفق الذي تعمل فيه، وعما إذا كان هذا الأفق عالميا أو محليا. الواضح أن من يفكر على مستوى الكون، وسوقه فعليا هو العالم كله، فإنه يستطيع أن يصل إلى إيرادات قدرها ٧٤ مليار دولار؛ أما من كان مجاله هو السوق المحلية فإن ما يصل إليه لا يزيد على 1.6 مليار دولار!.
لا أدرى ما إذا كان اختيار «بصيرة» لرقمى إيرادات «جوجل» و«المصرية للاتصالات» محض صدفة أم أن هناك بالفعل قاعدة للمقارنة. فرغم أن الشركتين تختلفان في أمور كثيرة، إلا أن الشركة المصرية تعتبر من الشركات المصرية المتقدمة، ليس فقط بحكم المجال الذي تعمل فيه والذى احتك تاريخيا بقفزات كبيرة من التقدم التكنولوجى من التلغراف وحتى الإنترنت والتليفون المحمول بأجياله المختلفة، وإنما أيضا لأنها حازت نخبة من الفنيين والمتعلمين المصريين، ليس شائعا أن يتواجدوا في شركات مصرية أخرى. ولكن لماذا كل هذا العدد الذي يوجد مثيل له في شركة تعمل على مستوى الكوكب كله؟ الأرجح أن الشركة المصرية أصيبت بكل ما تصاب به الشركات المصرية، وهو أن تضم من العمالة ما لا تطيق، لأنها باختصار شركة عامة حتى ولو تم طرح ٢٠٪ من أسهمها للأفراد والمؤسسات عام ١٩٩٨. والشركة العامة في مصر هي شركة حكومية تخضع للقواعد البيروقراطية العامة التي تتوالد بحكم الطبيعة من الناحية، وتضع أسواراً على التفكير والابتكار من ناحية أخرى.
القضية ربما ليست الفارق في الإيرادات بين شركتين، حدث على سبيل المقارنة والبحث في أسباب تواضع مكانتنا وإنتاجيتنا ومواردنا أنهما «جوجل» و«المصرية للاتصالات»؛ وإنما الفارق في التطور والسرعة فيه. شركتنا المصرية عمرها أكثر من ١٦٠ عاما، والشركة الأمريكية عمرها يقل عن عقدين، ومع ذلك فإن الأخيرة انتقلت من مجرد محرك للبحث عن المعلومات دخله أكثر من مليار من البشر خلال سنوات قليلة، إلى آلة جبارة يستخدمها مليارات البشر لتنظيم وتقديم خدمات المعلومات بما فيها تلك المتعلقة بالبحث عن الأمراض في الخلايا، والبحث في الطبيعة على مستوى الكون. والواقع أن الفارق بين «جوجل» و«الفابت» يقارب الفارق ما بين استخدام الدواب في التنقل والطائرات الأسرع من الصوت. الشركة المصرية تطورت ولا شك، وانتقلت إلى مجالات متنوعة، ولكنها، وفى حدود ما نعلم، لم تبتكر شيئا ولم تضف لعالم المعلومات والاتصالات الذي تعمل فيه شيئا. هي كما أخذت التلغراف فإنها أخذت الإنترنت والتليفون المحمول، ومؤخرا إلى طوائف جديدة من هذا المحمول يقال عنه «الأندرويد» أو التليفونات الذكية فأخذتنا إلى أعتاب الثورة التكنولوجية الرابعة.
كل ذلك لا بأس فيه، وقليل من شركاتنا المصرية أخذتنا إلى أعتاب القرن الذي نعيش فيه، ولو جرت المقارنة مع الحكومة وباقى شركاتها العامة وغالبية شركاتنا الخاصة، فربما كانت للشركة المصرية مكانة في المقدمة. ولكن جوهر المسألة هو أن ما رصدته «بصيرة» في معلومة بسيطة يلخص حالة تخلفنا الذي لخصه سؤال للأستاذ إبراهيم عيسى قوامه: هل ننظر للدول حولنا (سوريا وليبيا واليمن والصومال وأمثالها) وما آلت إليه ونحمد الله على ما بقينا عليه؛ أم نطل على من سبقنا من دول (كوريا الجنوبية واليابان والنمور والفهود وأمثالها)؟ إذا كنا ننظر لهذه المجموعة من الدول الأخيرة، فإن علينا أن نمعن النظر في الشركات التي سبقتنا أيضا ونتعلم كيف حققت هذه الشركات ذلك الفارق الرهيب بيننا وبينها. بعض من هذا الفارق بالطبع يعود إلى البيئة التي تتواجد فيها، هي بيئة من القوانين والتشريعات التي تعرف كل أنواع القيود لدينا، كما تعرف كل أنواع الانطلاق والحرية لدى الآخرين؛ ولكن ما لا يقل أهمية فهو البيئة الثقافية.
ومنذ سنوات، كتبت مقالاً عن «ثقافة العمل في مصر»، استند إلى دراسة قامت بها واحدة من شركات جنوب أفريقيا عن سوق العمل المصرية. نتيجة الدراسة كانت في العموم سلبية، ليس بسبب قدرات أو مهارات العاملين، وإنما بسبب التقاليد الاجتماعية التي تجعل العمل ذا أهمية تالية لكل واجب اجتماعى، والثقافة العامة التي لا تجعل العمل ضمن أولوياتها (بالطبع فإن الحصول على أجر أمر آخر!). هنا ربما نرصد فارقا آخر بين ٥١ ألفا من العاملين في «جوجل» ومثلهم في المصرية للاتصالات وهو «ثقافة الابتكار». لاحظ هنا تلك الحالة من الحصار والعنت التي تواجه المبتكرين والمبدعين من المجتمع تارة، ومن الدولة والحكومة تارة أخرى. ولمن أدار يوما واحدة من المؤسسات العامة فإن المقاومة والرفض والهجوم على كل متميز ومبدع باسم الأقدمية أو الدين أو الأخلاق أو التقاليد أو الخوف من التغيير وكفى، تعد من الفضائل التي تعطى لصاحبها شعبية طاغية.
أظن أن المسألة كلها، في الأول والآخر، تحتاج إلى قرار من الشعب ومن الدولة وقيادتها. وكما هو الحال في كل القرارات فلابد من إدراك الحالة التي وصلنا إليها، وهى ليست أننا نعد في الدرك الأسفل من الدول، أو أن واحدا وخمسين ألفا منا ينتجون حوالى ٢٪ مما تنتجه جماعة مماثلة في شركة أخرى في العالم، أو أن التقارير الدولية تضعنا في هذه المكانة، وإنما لأن الحال بات لا يمكن تحمله. وهو كذلك لأننا لم نعد مقتنعين به، ولا مستعدين للتعايش معه، ولأن أجيالاً منا باتت مطلعة على ما يحدث في العالم وهى ساخطة وغير راضية، ولذلك فهى تتأرجح ما بين الثورة والهرب إلى الخارج. السؤال ربما: كيف نرتفع إلى مستوى المسؤولية التي تتضمن طرح الأسئلة الصحيحة عن حالتنا؛ والبحث عن إجابات موجودة بطول العالم وعرضه لكى نختار منها ما يناسبنا، ولكنها كلها تقوم على تحرير العقل، وتحرير الإرادة، والتركيز في أولويات معلومة، ومحاسبة المسؤول في كل موقع وقطاع. وبصراحة، لا ينبغى اختراع العجلة مرة أخرى لأنه جرى اختراعها منذ وقت طويل!.
----------------------------
* نقلا عن المصري اليوم، 21-3-2016