استعاد الشارع العراقي في الصيف الماضي روحه وأهميّته كحيّز سياسي، بعدما خرجت أعداد كبيرة من المواطنين، في البصرة وبعدها مدن أخرى من ضمنها العاصمة، محتجّة على سوء الخدمات والفساد والفشل الذريع للدولة وللنظام السياسي. وأكّدت الشعارات والهتافات والمناخ العام للتظاهرات انتهاء صلاحيّة الطائفية السياسيّة ورصيدها خطاباً وممارسةً بالنسبة للمواطنين. كما أكدت رغبتهم بالإصلاح وحتى التغيير الشامل. وبدا أن «المدنيّة» (بغض النظر عن معانيها وتعريفاتها المختلفة) هي العُمْلة السياسيّة التي يطمح غالبية الناشطين والمتظاهرين إلى أن تكون بديلاً لعملة الطائفية الفاسدة.
وكان مَن تصدّوا لتمثيل «التيّار المدني» في بغداد والحديث باسمه عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في طليعة الحراك، من حيث التنظيم وإدامة الزخم في ساحة التحرير في بغداد، بؤرة الحراك وبيته الرمزي، وفي التنسيق مع المحافظات. كان من الممكن ومن الضروري، كما أشار بعض المراقبين في حينه، أن يتم استغلال الفرصة التاريخيّة لتحويل ذلك الزخم الجماهيري والحماس الاستثنائي والغضب المشروع إلى حركة سياسيّة منظمّة، ذات برنامج سياسي ورؤية واضحة، يمكن أن تبدأ بالعمل من أجل التغيير الفعلي. خصوصاً بعدما بدا واضحاً أن العبادي لم يكن جدياً أو قادراً على القيام بالإصلاحات المنشودة، وأن الطبقة السياسيّة تراهن على المماطلة وإنهاك الجماهير. ولكن، للأسف، لم يفرز الحراك قيادة ناضجة ومحنّكة تستطيع التعامل مع الموقف باستراتيجيّة وبُعد نظر. وكان من الطبيعي أن تخفّ حدة المظاهرات، وأن تتناقص الأعداد في ساحة التحرير، وأن يصبح التظاهر أقرب إلى الطقس الاجتماعي ويفقد زخمه.
ولعل آخر مثال على تخبّط من يتحدّثون باسم التيّار المدني هو تهافتهم في محاولة تبرير تحالفهم وتظاهرهم المشترك مع جماهير «التيار الصدري». فممثلو هذا الأخير كانوا جزءاً من العمليّة السياسيّة التي أوصلت البلد إلى الخراب الذي يغرق فيه. ولقد ثبت تورط عدد من مسؤوليه ووزرائه بفضائح الفساد الذي يتظاهر التيّار المدني منذ أشهر ضدّه. صحيح أن السيد مقتدى الصدر أمر بمعاقبة بعض هؤلاء مؤخراً وأعلن تبرؤه منهم، لكن بعد فوات الأوان. والإشكالية الأخرى في التحالف هي التناقض الواضح في الأفق السياسي وطبيعة الدولة التي يرومها كل من التيارين. تظل مساحة الاتفاق الوحيدة هي معارضة الفساد والمطالبة بالإصلاح. أضف إلى ذلك الجماهير الواسعة التي يستطيع التيّار الصدري تحشيدها والموارد التي يستطيع تعبئتها، وبذلك ليس هناك أي تكافؤ في هذا التحالف. وسيضمحل صوت التيّار المدني إن لم يختف كلياً في هذه المعادلة. بينما كسب التيار الصدري الكثير من هذا التحالف المؤقت. فها هو يعيد تموضعه في الشارع العراقي، وينأى بنفسه بعيداً عن الطبقة السياسية المغضوب عليها وعلى فسادها، ممثلاً بالجماهير الحاشدة التي تهتف وتقف خارج أسوار المنطقة الخضراء. حرص السيد مقتدى الصدر في خطاباته أمام جماهيره في ساحة التحرير على تقديم خطاب وطني يتّسع للطيف العراقي ويبتعد عن الطائفيّة. ومن اللافت أن آخر بيان صدر من لجنة الاعتصام الوطني في التيّار الصدري بشأن الاعتصامات المخطط لها خارج المنطقة الخضراء سمّاه «القائد العربي». ودعا البيان المواطنين «من جميع طوائف وقوميات الشعب العراقي» للاشتراك في الاعتصام السلمي. وخلا من أي إشارة إلى التيار المدني!
------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 15-3-2016.