بدأ الوضع في ليبيا يدخل مرحلة التأزم وصار مرشحا أكثر فأكثر لحالة التوحش، التي تعني غلبة الفوضى وغياب البدائل السياسية والأمنية. فقبل أيام أطلق الجناح الليبي لما يسمّى الدولة الإسلامية في العراق والشام جملة من العمليات استهدفت السيطرة على الهلال البترولي، حيث تتركز آبار النفط في البلاد، من أجل القبض على العصب الحساس الذي يمكنه من تموين نفسه وتملك أسباب القوة التي تجرد الأطراف الأخرى من قدرة حسم مواجهته؛ وهو السيناريو الأكثر كارثية الذي بات يقلق مختلف الجهات الدولية، ومعها البلدان الأفريقية القلقة من مخططات التمدد لدى التنظيم الإرهابي، وبوجه خاص من احتمالات التحالف مع تنظيمات مسلحة مشابهة، كجماعة بوكو حرام النيجيرية. ففي ظل تواجد جماعات إرهابية في البلدان المتاخمة لليبيا، فإن احتمالات اشتعال الوضع الأمني في المنطقة باتت أمرا وشيكا، بالنظر إلى حالة التلكؤ التي تطبع المجتمع الدولي في التعامل مع الظروف الراهنة.
ويظهر بأن كل يوم يمر إلا وتتقلص احتمالات السيطرة على الوضع، وتتزايد احتمالات تمدد تنظيم داعش الذي تمكن حتى الآن من استثمار الوضع السياسي الداخلي في البلاد لصالحه، بعد فشل الأطراف الموقعة على اتفاقية الصخيرات بالمغرب الشهر الماضي في تشكيل حكومة وحدة وطنية.
الفشل في تنفيذ الاتفاق يضاعف من الأزمات الأمنية في البلاد ويزيد في تعقيد الحل السياسي. ففي ليبيا اليوم المئات من الجماعات المسلحة التي تصارع بعضها من أجل الهيمنة على مقاليد الحكم، وتسعى كل واحدة منها إلى استغلال حالة التشرذم لفائدتها، بينما يوجد قرابة الألف وخمسمئة مقاتل تابعين لتنظيم الدولة الإسلامية، وغالبية مسلحي هذه الجماعات قادمة من بلدان مجاورة، ترى أن ليبيا صارت نقطة مركزية في المخطط الجهادي الذي يتوقف عليه أمر التمدد في باقي بلدان المنطقة، لذلك فإن الرهان على الحالة الليبية يعد في جوهره رهانا إقليميا.
وسط هذا الوضع أصبح خيار التدخل العسكري الأجنبي سيناريو واردا، ربما تطبيقا للمقولة الشائعة “آخر الدواء الكي”، طالما أن الحل السياسي الذي كان ممكنا مع اتفاق الصخيرات لم يعد محفزا على التفاؤل. فالولايات المتحدة الأميركية دفعت إلى الواجهة بفكرة تشكيل تحالف دولي آخر، كالتحالف الذي يستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وتحاول تسويق هذا المشروع للبلدان الأوروبية المتضايقة من تمدد التنظيم إلى نقاط قريبة من الساحل المتوسطي، واستثمار مشاعر التحفّز لدى الفرنسيين الذين تضرروا من التفجيرات الإرهابية لهذا التنظيم في العاصمة الفرنسية، ولذلك تطلق واشنطن إشارات إلى الجانب الأوروبي، من أجل حشد التأييد للتدخل العسكري الدولي.
بيد أن الولايات المتحدة، التي سعت إدارتها الحالية إلى النأي بنفسها عن مهام التدخل العسكري بالنظر إلى الكلفة الاقتصادية، وربما السياسية أيضا، لمثل هذا التدخل خارج التراب الأميركي، تسعى إلى منح إيطاليا مهمة تنسيق التحالف المزمع تشكيله ضد الجماعات المسلحة في ليبيا، أي أنها تريد العض على الحديد باستعمال الأسنان الأوروبية؛ وهي سياسة قد تزيد في تعقيد الأزمة المعقدة أصلا في ليبيا، وتدفع في اتجاه تعزيز الجماعات الإرهابية.
لقد استعمرت إيطاليا ليبيا مدة عقود، ولا يزال الليبيون يتذكرون مآسي الاحتلال الإيطالي في زمن موسوليني؛ وعلاوة على التبرم من التدخل الأجنبي فإن تصدر روما للتحالف الدولي من شأنه أن يدعم الجماعات المسلحة ويوسع من خياراتها، بل وأن يمد جسورا بينها وبين الليبيين، وهو ما تسعى إليه هذه الجماعات وتنتظره.
لا يمكن للتحالف الدولي، ولا لأي جهة أجنبية، أن يحل محل الليبيين في مقاتلة الجماعات الإرهابية المسلحة. هناك حظر دولي مفروض على إدخال السلاح إلى ليبيا، منذ اندلاع الأزمة وغياب السلطة المركزية للدولة، وهو حظر مشروط بتشكيل حكومة ليبية تتمتع بالشرعية. وعلى الجانب الآخر هناك اتفاق تم التوقيع عليه بين الأطراف الليبية، وهو الأرضية السياسية الوحيدة الموجودة حتى الآن، والتي يمكن على أساسها تشكيل قوة سياسية في البلاد ذات شرعية وطنية ودولية؛ لذا فإن التدخل الدولي سوف يكون الضربة القاضية لهذا الاتفاق، وسوف يفرغه من مضمونه، إذ سيظهر أي حكومة مقبلة كما لو أنها نتاج مؤامرة دولية على البلاد، و”عميلة” لأطراف دولية، وهي رسالة سلبية بل وخطيرة على مستقبل ليبيا، والحل المنطقي الأقرب إلى الصواب هو إقناع الأطراف المتنازعين من الطرفين، من طبرق إلى طرابلس، بالتفاهم في ما بينها.
-----------------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 2-2-2016.