من الصعب العثور على مكان في العالم العربي تدامجت فيه الجامعة بمحيطها البشري كما تدامجت الجامعة الأميركية بمنطقة رأس بيروت. ربما كانت جامعة «أوكسفورد» على هذا الغرار أو «هارفارد سكوير»، لكن لم تغزل أي جامعة عربية على مغزل الجامعة الأميركية على الإطلاق. وكانت منطقة «الحمرا» تسمى «جرن الدب»، فيما كانت الجامعة تدعى «الكلية الإنجيلية السورية». ومنذ بدايتها لم تكن هذه الكلية علمانية بل تبشيرية، وكانت البعثة الأميركية الإنجيلية ترغب في بناء الجامعة في حمص حيث توجد أعداد كبيرة من المسيحيين، لا سيما في منطقة وادي النصارى. لكن لأسباب عدة، فشلت هذه البداية، فانتقل القائمون عليها إلى منطقة رأس بيروت، وشيدوا الجامعة في سنة 1866 في منطقة لا يقطنها إلا صيادو السمك وبعض زارعي الخضروات، علاوة على بنات آوى في الجحور الرملية وبين قصب «الغزّار».
نعم، لم تكن هذه الجامعة علمانية، فهي تبشيرية وإنجيلية، لكن التأكيد على الحرية وعلى استقلالية التفكير العلمي، وعلى الديموقراطية جعل هذه الجامعة ميداناً للعلمانية في ما بعد. وفي رحابها انتعشت جميع الحركات السياسية العلمانية كـ «الحزب السوري القومي الاجتماعي» و «حزب البعث العربي الاشتراكي» و «حركة القوميين العرب» التي ظهرت في أجواء نادي «العروة الوثقى» الذي أيقظه الدمشقي قسطنطين زريق. والمشهور ما حدث في سنة 1882، أي بعد تأسيس هذه الجامعة بستة عشر عاماً، حين خاطب البروفيسور لويس طلابه في حفل التخرج قائلاً لهم: «أنا أشجعكم على السير على خطى داروين في البحث العلمي». وقد أثارت هذه العبارة حفيظة دانيال بلس الذي قرّع الأستاذ، ثم أصدر قراراً بفصله من التعليم. وتعاطف طلاب كلية الطب مع الأستاذ لويس، وبادر عدد منهم أمثال خليل سعادة (والد أنطون سعادة) وبشارة زلزلة ويعقوب صروف وشبلي الشميل، إلى الإضراب احتجاجاً، واستقال جراء ذلك أحد عشر أستاذاً من بينهم فان دايك. وهؤلاء شكلوا لاحقاً خميرة النهضة العلمية والفكرية في مصر، لا سيما يعقوب صروف الذي أسس مجلة «المقطم» وشبلي الشميل الذي كان أحد أشجع المفكرين، ولم يُخفِ إلحاده واشتراكيته حتى في ذلك الزمان.
من المحال إزالة التشابك بين الجامعة الأميركية والأماكن المحيطة بها. فشارع بلس وشارع الحمراء وشوارع عبد العزيز وجان دارك والمكحول والمقدسي وحتى السادات هي امتدادات هندسية تصب كلها عند الجامعة. وهذه الشوارع نشأت، في الأساس، لخدمة الجامعة وأساتذتها وطلابها. ولاحقاً صارت منطقة رأس بيروت موئلاً للبرجوازية الفلسطينية التي هبطت ذلك اللسان البحري قسراً في سنة 1948 ومعها 150 مليون جنيه إسترليني بأسعار تلك الحقبة (10 مليارات دولار بأسعار اليوم)، ولحقتها البرجوازية السورية أول مرة في سنة 1956 ـ 1957، ثم في ستينيات القرن المنصرم غداة التأميمات العشوائية في سنة 1966. ولعل من المحال أيضاً أن نعثر على منطقة سكنها عدد هائل من الذين قلبوا الحياة السياسية في العالم العربي، أو قلبوا الحياة الثقافية أيما انقلاب. ففي داخل الجامعة كان المشاؤون كثراً أمثال جبر ضومط وجبرائيل جبور وقسطنطين زريق ويوسف إيبش (من سوريا)، وأسد رستم وأنيس فريحة وكمال الصليبي وشارل مالك وفيليب حتي وأنيس فريحة وخليل حاوي وسعيد حمادة (من لبنان)، وفايز صايغ وإبراهيم طوقان وزين نورالدين زين ونقولا زيادة وإحسان عباس (من فلسطين). وعلى مقاعدها درس وتخرج كثيرون ممن لمعوا في الفكر والأدب والسياسة من عيار أكرم زعيتر وباسل كبيسي وجمال الشاعر وخلدون ساطع الحصري وناهدة فضلي الدجاني وشفيق الحوت وماجد فخري وعبدالله الريماوي وعبد المحسن القطان وخالد اليشرطي ومنصور الأطرش ومُنح الصلح وثابت المهايني ونقولا الدر ووليد قمحاوي وشفيق جحا وسلمى الخضراء الجيوسي وبرهان الدجاني وعلي فخرو، علاوة على عمر أبو ريشة ويوسف صايغ وتوفيق صايغ وأنيس صايغ وغسان تويني وحيدر عبد الشافي وفخري البارودي وعبد الرحمن الشهبندر وعبد الوهاب الكيالي وسعيد تقي الدين ويوسف سلامة وسهيل بديع بشروئي وشارل عيساوي وأحمد سامح الخالدي وكمال ناصر وهشام شرابي ويوسف الخال وحليم بركات والمئات غيرهم ممن أبدعوا في عوالم الإبداع المختلفة.
لم تكن الجامعة علمانية في بداياتها، لكنها مع رأس بيروت صارت علمانية إلى حد كبير. غير أن تجربة رأس بيروت في التحضر والحداثة بقيت محصورة في نطاقها الجغرافي، ولم تمتد إلى بقية أحياء بيروت الأخرى. في رأس بيروت، الجميع أولاد خالات لأن النساء كنّ يرضعن أولاد جاراتهن عند جفاف الثدي أو في أثناء غياب الأم. هكذا يروي مَن عاش تلك الفترة. وفي رأس بيروت مرت الحرب الأهلية مروراً لطيفاً، ولم تعصف بها إلا بعد سنة 1982. ومع ذلك ظلت هذه المنطقة مختلفة حقاً. فلا تعصب ولا نفور، بل مقادير من الاندماج الوطني. وكان للكلية الإنجيلية السورية أو الجامعة الأميركية شأن مشهود في إشاعة هذه الروح وترسيخها في الحياة اليومية. وربما انتقلت روح العلم واستقلالية التفكير والحق في التعبير والحق في الاختلاف إلى المحيط البشري للجامعة، فأطلقت موجة من موجات الحداثة الجديدة. وقد غمرت الحداثة بيروت ولم تغمر صيدا مثلاً أو طرابلس اللتين تأخرتا كثيراً عن بيروت في هذا المضمار، مع أن المدن الثلاث هي مدن ساحلية، وجميعها موانئ لخدمة الداخل السوري. والسبب هو أن بيروت لم تكن فيها شبكة قوية من الأعيان، أي من التجار ومالكي الأرض ورجال الدين، وظهرت الحداثة فيها بأسرع من المدن الأخرى في سياق التنافس بين البروتستانت و «الجزويت» الذين ما إن أسس البروتستانت «الكلية» في سنة 1866 حتى شرعوا في بناء جامعة القديس يوسف وأعلنوا قيامها في سنة 1875.
في هذا الحقل من التنافس المعرفي، وفي معمعان الازدهار اللبناني الذي بدأ يتحرك ولو ببطء مع مجيء مسيحيي الشام والحرفيين والتجار والصناع إلى بيروت بعد سنة 1860، راحت تتكامل غداة النكبة الفلسطينية ثم غداة نكبة التأميم في سوريا تحولات كبرى كانت الجامعة الأميركية مرآة لها، وساهمت، بالفكر المنفتح، في إشعال جذوة التحرر والعلمانية. لنتذكر أن بدايات الفكر القومي ظهرت في هذه الجامعة بالتحديد مع المعلم بطرس البستاني في أواخر القرن التاسع عشر. وفي منتصف القرن العشرين كانت مجموعة سورية مهاجرة تؤسس أهم مجلتين للحداثة الشعرية في مناخ الجامعة الأميركية. الأولى هي مجلة «شعر» التي ظهرت من بين أصابع يوسف الخال (عمار الحصن في حمص) وأدونيس (قصابين القريبة من اللاذقية) ونذير العظمة (دمشق) وفؤاد رفقة (الكفرون) ومحمد الماغوط (السلمية)، والثانية هي «حوار» التي أسسها توفيق صايغ (من قرية خربا في محافظة السويداء والمهاجر إلى فلسطين قبل أن تحط العائلة رحالها في بيروت). والحداثة في لبنان كانت تعني، في أحد وجوهها، الأحزاب والأندية الثقافية والجمعيات والموسيقى والرقص والسباحة والسينما والرياضة، وهذه كلها أينعت بالقرب من الجامعة الأميركية بالدرجة الأولى.
-----------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 30-1-2016.