بعدما أخفقت لجنة الـ13 التي كونها مؤسس «حزب نداء تونس» ورئيس الجمهورية الاستاذ الباجي قائد السبسي لتنفيذ خريطة الطريق التي أعدّتها لحل أزمة الحزب وأقرتها الهيئة التأسيسية في بيانها الختامي «باعتبارها تمثل الاطار العملي لإنجاز مؤتمر توافقي ينقذ الحزب ويحافظ على وحدته بالاستناد الى مبادئ الديموقراطية والتوافق والتمثيلية»، عقد «حزب نداء تونس » جناح حافظ قائد السبسي مؤتمره التأسيسي في مدينة سوسة يومي 10و 11 كانون الثاني الجاري، بحضور شرفي من قبل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، الذي لم يفوت فرصة منذ عودته الى المشهد السياسي بعد فوز «حزب نداء تونس» بالانتخابات التشريعية والرئاسية من دون أن يذكر بأنه كان، وسيظل طوال مدته الرئاسية، رئيسا لكل التونسيين بكل انتماءاتهم واختلافاتهم الحزبية، مستحضرا في ذات الوقت وعوده الانتخابية، ولكن وهذا الأهم، التزامه بما ورد في دستور الجمهورية الثانية.
غير أن مواكبة الرئيس الباجي قائد السبسي افتتاح أعمال مؤتمر «حزب نداء تونس» جناح حافظ قائد السبسي، أثار موجة من الانتقادات، لا سيما أن الحزب الذي أسسه رئيس الجمهورية، والذي يعتبر الأب الروحي له، شهد انفصالاً نهائياً بين جناح نجل الرئيس حافظ قائد السبسي الذي عقد مؤتمره في سوسة، وبين جناح مدير حملة الرئيس الانتخابية والأمين العام السابق للحزب محسن مرزوق الذي عقد بدوره بقصر المؤتمرات اجتماعا موازيا لإعلان مشروع «النداء الجديد».
المتابع الدقيق لمسيرة هذا الحزب منذ تأسيسه في سنة 2012، كرهان حقيقي لمؤسسيه من أجل تحقيق التوازن المطلوب في المشهد السياسي التونسي آنذاك، عبر تكوين حزب جماهيري قادر على خوض الصراع ضد «الترويكا» الحاكمة بقيادة حركة «النهضة» الإسلامية التي استلمت السلطة عقب انتخابات 2011، يلمس بوضوح أن هذا الحزب يعاني من غياب المرجعية الفكرية. وبعد نجاح الحزب في الانتخابات التشريعية في تشرين الأول 2014، وفوز زعيمه التاريخي في الانتخابات الرئاسية، تفجرت مسألة المرجعية الفكرية والسياسية لحزب «نداء تونس» بين قياداته من الهيئة التأسيسية التي كانت تضم 14 عضواً، فمنهم من أصبح ينادي بأن المدرسة البورقيبية التي تنادي بالحداثة هي المرجعية الفكرية والسياسية للحزب، ومنهم من يقول بأن الإسلامي الإصلاحي عبد العزيز الثعالبي مؤسس «الحزب الحر الدستوري التونسي» في عام 1920 هو المرجعية، في حين أن الكراس الذي يحدد مرجعية الحزب كان قد أشار إلى أن مرجعية الحزب هي الحركة الإصلاحية التونسية منذ الشيخ عبد العزيز الثعالبي. ولعل ذلك يؤكد أن من انخرطوا في التجربة في البدء لم يفكروا يومًا أنهم سيتصارعون على إعادة تحديد مرجعيات الحزب، لكن ذلك أصبح من أبرز محاور الصراع اليوم.
ما من شك أن محسن مرزوق لعب دوراً محوريًا ضمن النخبة الضيقة في تأسيس «حزب نداء تونس»، وكان أيضاً المدير التنفيذي للحملة الانتخابية للرئيس الباجي قائد السبسي. فلكل هذه الاعتبارات، يشكل انفصاله عن «حزب نداء تونس» ضربة كبيرة للحزب الحاكم، الذي التَفَّتْ حوله التونسيات والتونسيون بمئات الآلاف كحزب إنقاذ وطني، وكحزب حامل لمشروع إصلاحي حداثي في مجابهة مشروع حركة «النهضة» الذي أراد فرض نمط اجتماعي إقطاعي لتشكيل التركيبة الاجتماعية في تونس. وقد ضم حزب «نداء تونس» نقابيين ويساريين ودستوريين منتمين سابقين إلى «الحزب الاشتراكي الدستوري» في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، وحزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحاكم في عهد بن علي الذي حكم تونس بين 1987 و2011، وساهم حزب نداء تونس بشكل كبير في التأسيس لجبهة الإنقاذ الوطني التي كانت ردًّا على إسقاط البلاد في دائرة الاغتيال السياسي، وكان فعَّالاً إلى جانب «الجبهة الشعبية» ذات التوجه التقدمي واليساري، في اعتصام بارود الذي كان يطالب بإسقاط حكومة «الترويكا» برئاسة علي العريض.
ويمثل شق محسن مرزوق الذي نَهَلَ من التجربة اليسارية للوطنيين الديموقراطيين بالجامعة التونسية، والذي اختار لاحقا الفضاءات الليبرالية، تيار ما يطلق عليه في عصر العولمة بـ «اليسار الليبرالي الأميركي»، إضافة إلى تبنيه مشروع الحداثة للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، وهو تيار يمتلك قيادات لها تجربة حزبية وجمعياتية ونقابية (انتمت في السابق إلى حزب «التجمع» المنحل، أو «الاتحاد العام التونسي للشغل»، أو تنظيمات يسارية)، وحصل على تأييد 28 نائبا قدموا استقالاتهم بصورة نهائية من الحزب، وهو يحاول أن يستقطب النساء وفئات الطبقة المتوسطة والبرجوازية الليبرالية التي تدافع عن المشروع الحداثي. وبهذا الانفصال، يكون محسن مرزوق «الإبن» غير البيولوجي للباجي قائد السبسي قد تحرّر كلياً من السلطة المرجعية لـ «الأب الروحي» له، ألا وهو الرئيس الباجي قائد السبسي، وتمرّد عليه حين أعلن بورقيبيته، في إشارة الى تخلَّى الســـبسي عنها، عندما فضّل ابنه على حساب الدولة.
----------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 23-1-2016.