ثلاثون سنة لا تكفي لنسيان حرب أكلت جيلا بأكمله. احتلوا العراق وانتقموا من السنة وأخذوا نفط البصرة، والآن المواجهة مع السعودية.
الصراع مع إيران يستحضر موضوع العقيدة السنية والوجدان العربي بقوة، وعلى هذا يتم تحشيد العرب والسنة ضد المشروع الصفوي، أي أن هذا الصراع يحوّلك إلى مسلم عربي راسخ، بينما الصراع مع داعش من جهة أخرى يضرب باتجاه آخر تماما، وهو العلمانية والحريّة ومحبة الغرب ونبذ التطرّف. العقل ينفجر إذا طلبنا منه السير باتجاهين متعاكسين.
كنّا نقول للكتاب السعوديين، لا نستطيع كتابة مقالات ضد داعش الآن لأن عندنا خطرا إيرانيا أهلك الحرث والنسل في العراق، يقولون اكتبوا ضد الاثنين معا. أزمة بسيطة مقارنة بمحنة العراقيين مع إيران، نلاحظ بأنه قد اختفت مقالاتكم ضد داعش. أين الحرب على الإرهاب؟ تأجّل كل شيء لأن العقل لا يمكن أن يسير باتجاهين متعاكسين في نفس الوقت.
بالنسبة إلى إيران فالسعودية هي التي حرّضت صدام حسين لإعلان الحرب على طهران وقتل مليون إيراني. يقولون بأنه مجرد قاتل مأجور كان يعمل لدى السعودية. لقد جند صدام حسين شيعة العراق بالقوة لقتال إمامهم الخميني. لهذا تراهم متلهفين للتكفير عن ذنبهم القديم كتوابين، فما زالت أيدي شيعة العراق ملطخة بدماء الثورة الإسلامية الإيرانية وحرس الخميني. كل محاولات السعودية لسحب الصاعق الطائفي من الأزمة هي صعبة، فالاستقطاب قويّ جدا في المنطقة.
شيعة العراق حاربوا الخميني مع صدام حسين وقدموا نصف مليون قتيل. والمؤلم بالنسبة إليهم أنهم سقطوا برصاص شيعي، ثم بعد ذلك العطاء القومي العظيم بسنتين فقط غزا العراق الكويت، وقام العرب بحصار العراق 12 سنة. جاع الشيعي وحوصر وتعذّب، ولا ذنب له ولا ناقة ولا جمل، واعتبر ذلك عقابا إلهيا لقتاله الإمام الخميني. وصار شيوخ الفتنة يقولون لو كان الشيعي بقيادة الخميني بدلا من العرب، لما استطاعوا تجويعه، ولأطعمه الفرس الشيعة مثله.
لم يبق ضرس واحد بفم الناس من نقص الكالسيوم، كانت الأطفال تموت بالجملة لنقص اللقاح والدواء. كتب إدوارد سعيد حينها بأن العراق كان يأخذ المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل إلى مستشفى الأطفال ببغداد ليشهدوا الكارثة الإنسانية التي تركها الحصار، ومع ذلك كان بعض المسؤولين الأميركيين يسخرون قائلين “هل أخذكم العراق إلى ذلك المستشفى؟” هذه تراكمات من تاريخ ليس ببعيد تركت جرحا عميقا بين الشيعة والعرب.
العراق أعلن الحرب حينها لوقف المد الخميني وانهيار الدول العربية. العدوى كانت ستدمّر المنطقة لولا الخطاب القومي والحرب العراقية على إيران. قُتِل مليون إيراني وكثيرون يعتقدون بأن هذا مجرد تاريخ قديم. لا ليس قديما بعمر أمة مثل إيران. ثلاثون سنة لا تكفي لنسيان حرب أكلت جيلا بأكمله. احتلوا العراق وانتقموا من السنة وأخذوا نفط البصرة، والآن المواجهة مع السعودية.
نحن في عام 2016 ولسنا في عام 1979 وعندنا اليوم مشكلة لا تقل خطرا عن إيران هي تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على ثلث العراق وسوريا وأعلنت الخلافة. وشئنا أم أبينا الصراع السعودي الإيراني ربما سيخفف الضغط على تنظيم داعش ويؤدي إلى تقويته. فهو يعمل لحسابه الخاص. داعش تنظيم إيراني من باب أن كل عدوّ للسعودية هو إيراني صفوي، وداعش سعودي من باب أن كل عدو لإيران فهو سعودي وهابي. بينما من الممكن جدا وجود تنظيم مستقل ضد السعودية وإيران معا، كما أن السعودية نفسها ضد المشروع الصفوي والإرهاب السنّي معا.
ويقول متابع إن داعش مرة يوافق أغراض حلف “الروافض” مثلما ضربوا معسكر تواجد الأتراك قرب الموصل، ومرة يوافق حلف السعودية مثل هجوم النخيب بعد يوم واحد فقط من إعلان الميليشيات نصب صواريخ موجّهة نحو السعودية من هناك، ومرة يوافق حلف أميركا مثلما ضربوا الطائرة الروسية، ومرة يوافق حلف بشار مثلما يهجمون على مواقع المعارضة، ومرة يوافق حلف المعارضة مثلما يحررون مناطق من جيش بشار الأسد. داعش منظمة تعمل لحسابها الخاص، كما حدث بتفجير إسطنبول الانتحاري مؤخرا، الذي ينفي (على الأقل شكليا) شكوكنا السابقة بأن التنظيم ربما يعمل لصالح أردوغان مثلا.
بوجود صراع جدلي بين السعودية وإيران وداعش تبدو كل الاحتمالات مفتوحة. فقد كان أمام الحلفاء في الحرب العالمية الثانية خيار صعب لا بد منه، وهو التحالف مع ستالين للقضاء على هتلر. ربما مع تطور الصراع ستجد القيادة السعودية نفسها أمام موقف مشابه.
-----------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 17-1-2016.