يثير تنامي الدور الروسي في الشرق الأوسط أسئلة عن مستقبل علاقات موسكو مع الدول العربية، وفي مقدمتها السؤال عن مدي إمكانات حدوث تقارب بين بلاد يفصلها عن موسكو تاريخ مثقل بالمرارات، خاصة تلك التي نتجت عن الغزو السوفيتي لأفغانستان، وأخري لديها شكوك في الأهداف الحقيقية للدور الروسي المتزايد في المنطقة، فضلا عن أن شبكة العلاقات الأمريكية مع دول عربية عدة لا تزال مؤثرة وفاعلة، ويمكن أن تمثل عائقا أمام أي تقدم في العلاقات مع موسكو. فضلا عن ذلك، فإنه لا العرب متفقون حول مطالبهم وأهدافهم من روسيا، ولا الروس علي استعداد للعب أدوار ضمن تحالف جديد يؤثر سلبا في روابطهم مع حلفاء تقليديين، مثل إيران والنظام السوري. ثم إن الجانب العربي لم يحسم موقفه فيما يتعلق بحدود علاقاته بروسيا. وهذا الغموض في الموقف العربي سوف يستمر لفترة.
وتتنوع علاقات العرب الروس تاريخيا، وبعض الدول العربية يصنف تقليديا ضمن المعسكر المعادي أيديولوجيا لروسيا، بينما هناك شركاء ظلت علاقاتهم بروسيا مستمرة. وهناك حالات لدول عربية كانت شريكا أساسيا لموسكو، ثم تراجعت العلاقات بها لبضعة عقود، صارت فيها شريكا للولايات المتحدة، والآن تتجه إلي تجديد العلاقة بروسيا. وهؤلاء جميعا - برغم اتفاقهم الحالي علي أهمية دور روسيا، وصعوبة تجاهله - لديهم أهداف ومصالح متباينة، وهذا هو ما يجعل تقييم التوجه العربي نحو روسيا مسألة بالغة الصعوبة.
أولا- جديد العلاقات العربية الروسية 2011 - 2015:
يشير رصد كم ونوعية التقدم الذي شهدته العلاقات العربية الروسية، سواء علي مستوي التجارة، أو حجم الزيارات المتبادلة، أو نوعية الاتفاقيات ومذكرات التعاون والتفاهم، إلي تطور ملموس في هذه العلاقات. وبينما كان هذا التطور مدفوعا أكثر من جانب موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بضغط الحاجة إلي تنويع الشراكات والاستثمارات الأجنبية، أصبح لدي الجانب العربي حافز جديد بعد فتور العلاقة مع الحليف الأمريكي. ولذلك، حدث تطور تدريجي في العلاقات مع موسكو. ففي نوفمبر 2003، قام "الأمير" (آنذاك) عبدالله بن عبدالعزيز بزيارة رسمية لروسيا، وقام الرئيس بوتين بزيارة إلي السعودية في فبراير 2007، جري خلالهما توقيع مجموعة من الاتفاقيات في مجالات النفط، والغاز، والعلم، والتكنولوجيا، وفي مجال الاتصالات الجوية، والضريبة المزدوجة علي المداخيل ورءوس الأموال، وفي مجالات الثقافة، وتبادل المعلومات، والتعاون المصرفي، والتكنولوجيا الذرية، وغزو الفضاء للأغراض السلمية.
وبعد عدد من الزيارات من الجانب السعودي بين 2007 و 2009، قام الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، في يونيو 2015، بزيارة رسمية لروسيا، جري خلالها توقيع ست اتفاقيات ومذكرات تعاون استراتيجية بين روسيا والمملكة، تخللها إعلان المملكة بناء 16 مفاعلا نوويا، وإعطاء روسيا الدور الأكبر في تشغيل تلك المفاعلات، وأبرمت اتفاقية تختص بالمجالات العسكرية، ومذكرة النوايا المشتركة في مجال الفضاء. وأخيرا في نوفمبر 2015، عقدت اجتماعات اللجنة المشتركة دورتها الرابعة، ومنتدي الأعمال والاستثمار السعودي - الروسي في موسكو، والذي شهد توقيع 15 اتفاقية، ومذكرات تعاون في مجالات متنوعة.
أما العلاقات المصرية - الروسية، فقد شهدت هي الأخري تناميا مطردا خلال العامين الماضيين، عكسه حجم ومستوي الزيارات، سواء علي الجانب الروسي أو المصري، حيث زار الرئيس عبدالفتاح السياسي روسيا ثلاث مرات تقريبا، إحداها خلال توليه وزارة الدفاع في فبراير 2014، والأخريان في أغسطس 2014، وأغسطس 2015. كما زار الرئيس بوتين مصر في فبراير .2015 وخلال السنتين الأخيرتين، جري توقيع عدد من الاتفاقات، كان أهمها توقيع اتفاق الضبعة النووي بين مصر وروسيا في نوفمبر .2015 وبشكل عام، شجعت كل من الإمارات والسعودية مصر علي تعزيز علاقاتها بروسيا، وعلي مد الجسور مع الروس، من خلال الدعم المالي، والصفقات العسكرية الروسية للقاهرة، في سياق التجهيز لشريك استراتيجي جديد للعرب.
وبالقدر نفسه من الأهمية، شهدت علاقات روسيا مع كل من الأردن، والإمارات، والكويت، والبحرين تطورات مماثلة، عكسها حجم ومستوي زيارات المسؤولين خلال السنوات الأخيرة، فقام الملك عبدالله الثاني، ملك الأردن، بزيارة روسيا ثلاث مرات في أبريل 2014، وأكتوبر 2014، وأغسطس .2015 وشهدت العلاقات الروسية الأردنية تعاونا في المشاريع المشتركة في المجالات عالية الدقة، بما في ذلك مجال الطاقة النووية، والمجال التقني- العسكري، ومجال استخدام الطاقة الكهروذرية، ضمن استراتيجية المملكة لتنويع مصادر الطاقة. وقد تم اختيار شركة "روس آتوم" كأفضل صاحب عرض لإنشاء أول محطة أردنية لتوليد الطاقة الكهروذرية، وسوف تضم المحطة مفاعلين نوويين. وعلي الجانب الخليجي، قام أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح، بزيارة روسيا في نوفمبر 2015، وقام الملك حمد بن عيسي آل خليفة بزيارتها في أكتوبر .2014 أما الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، فقد زار روسيا في سبتمبر 2013، وأغسطس .2015 وأكدت القيادات الخليجية العلاقة الاستراتيجية بين روسيا ودول الخليج بحسبان روسيا شريكا استراتيجيا أساسيا.
ويثير الانتباه أن تطور العلاقات العربية مع روسيا أخذ اتجاها مطردا وشاملا، ولم يقتصر علي الشق العسكري والنووي، حتي بالنسبة لدول الخليج التي أبرمت العديد من الاتفاقيات مع الروس في مجالات التعليم، والعلم، والتقنية، والفضاء، والسياحة، والطيران، والرحلات الجوية، فضلا عن المجالات الاقتصادية المختلفة. ويلفت الانتباه أن هذا المسار لا يزال مستمرا علي الرغم من الخلافات مع موسكو بشأن الأزمة السورية والتدخل الروسي في سوريا. كما يثير الانتباه قدرة العلاقات المصرية - الروسية علي تجاوز حادثة فوق سيناء بقدر أهمية إسقاط الطائرة الروسية في أكتوبر 2015، واندفاع البلدين إلي مزيد من تعزيز العلاقات برغم جسامة الحادث. ويدلل كل ذلك علي أن هناك ضرورة تدركها الأطراف العربية المختلفة لبناء علاقات جديدة مع روسيا، وأن التفكير العربي في روسيا يتجاوز الخلافات السياسية، ويتجه لعدِّها قوة تأمين إضافية واحتياطية، في ظل أجواء الاضطراب في المشهد الإقليمي.
ثانيا - التوجهات العربية بشأن روسيا:
هناك وجهات نظر عربية مختلفة بشأن المصالح مع روسيا، والدور الروسي بالمنطقة في الوقت الراهن. وتتمثل أبرز الآراء العربية حول روسيا فيما يأتي:
1- دعم روسيا للدولة الوطنية: لا تزال روسيا تذِّكر بعالم الدولة والسيادة التقليدية في العلاقات الدولية، ولا تتدخل في شؤون الدول الأخري إلا بناء علي طلب السلطات الشرعية، أو التي تعدها كذلك. كما أنها تقدر قيمة التوازن بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبقاء الدول والأنظمة الحاكمة، ولا تحبذ تعريض المجتمعات للتفسخ الداخلي تحقيقا للمطلب الديمقراطي. ومن ثم، تمثل روسيا بالنسبة لبعض الحكومات العربية قوة عظمي مأمونة الجانب.
2- ملء الفراغ الاستراتيجي: هناك تفكير عربي في روسيا، بحسبانها الدولة القادرة علي ملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن تراجع الدور الأمريكي. وثمة بوادر علاقة عربية مع روسيا تتسم بالشمول، ولا تنحصر في الجانب العسكري. فإلي جانب الاتفاقيات العسكرية، أبرمت العديد من الدول العربية اتفاقيات اقتصادية، وتعليمية، وتكنولوجية، وثقافية مع روسيا، كما سبقت الاشارة. ولكن رغم أن ذلك مطلوب عربيا بشكل عام، ومن قبل دول الخليج العربية، فإنه يجري التحسب من أنه قد يصب في مصلحة شركاء روسيا التقليديين، خصوصا إيران وسوريا.
3- الشريك في التسوية: تمسك روسيا بالورقة الأهم في الموضوع السوري، الذي يشكل المناظرة الكبري بالمنطقة حاليا، وسوف تكون روسيا مطلوبة في الوصول إلي تسويات سياسية في موضوعات سوريا، واليمن، والعراق، وليبيا، أو في تطبيق هذه التسويات، أو ما بعد التسوية من عمليات إعادة بناء الدولة، وتكريس السلام الداخلي والأمن الوطني. ومن المرجح أن يكون من بين أهداف دول الخليج من التقارب مع روسيا استمالة "الدب الروسي"، والدخول في تفاهمات معه بشأن سوريا، بقصد تعزيز الوصول إلي تسوية تطيح بالأسد في النهاية. ويمكن ترجيح أن تكون دول الخليج قد قررت انتهاج هذا الخيار، نظرا لأنه الأقل تكلفة من جهة، ولأنه يتجاوز المرور بواشنطن التي صار ينظر إليها بـ"انعدام الثقة" من الجانب الخليجي، من جهة أخري. ومن المهم للدول العربية تقريب مواقفها فيما يتعلق بالدور المطلوب من روسيا في هذه الموضوعات، لأن تضارب المواقف العربية من شأنه أن يجعل روسيا أكثر خضوعا لشركائها التقليديين. وبدلا من هندسة دورها بما يتوافق مع المصالح العربية، تصبح قوة نفوذ وتأثير في يد إيران.
4- الشريك في حرب الإرهاب: روسيا هي أكثر الأطراف الدولية عداء للجماعات "الجهادية". وأحد الدوافع التي يرددها الخطاب الرسمي الروسي للتدخل العسكري الروسي في سوريا هو المخاوف من تأثير انتصارات الجماعات المسلحة في سوريا والعراق في الإسلاميين بالجمهوريات الروسية المسلمة، وتأثير عودة العناصر الجهادية في تلك الجمهوريات إلي روسيا. ولذلك، فإن هناك مصلحة استراتيجية في حرب الإرهاب، والتعاون الاستخباراتي والأمني بين روسيا والعالم العربي، يمكن أن تمتد لسنين مقبلة. ولكن يعرقل من ذلك التباين العربي في تقدير منظمات وجماعات الإرهاب. وتشير الأوضاع في سوريا إلي صعوبة الوصول إلي وجهة نظر عربية مشتركة في ذلك، فما قد تراها دولة عربية جماعات معتدلة، تراها دولة أخري إرهابية.
5- مصدر التسلح الجديد: يشير تتبع ورصد حجم الإنفاق العسكري العربي، وصفقات السلاح، خلال السنتين الماضيتين، إلي توجه حصة مهمة منها نحو مشتريات السلاح من روسيا، وهناك بين الاتفاقيات التي أبرمت بين روسيا ودول الخليج ومصر ما تعلق بصناعات السلاح والفضاء. ويؤكد ذلك اتجاه الدول العربية لاجتذاب روسيا نحو مصالح أكثر شمولا مع العالم العربي، تخرجها من أسر العلاقات الخاصة مع إيران، خصوصا مع احتمال تغير المزاج الإيراني نحو روسيا، وإعادة البوصلة للتوجه ناحية الغرب، في ظل هجمة غربية للتواصل ومد الجسور مع إيران. وكانت السعودية والإمارات قد مولتا اتفاقا مبدئيا بين روسيا ومصر لشراء معدات عسكرية، تشمل 24 طائرة "ميج- 29" MiG-29 ، وأنظمة صواريخ "بوك إم2" Buk M2، و"تور إم2" Tor M2، ووفقا لبعض التقارير، تراوحت قيمة الصفقة بين مليارين وأربعة مليارات دولار. كما قدمت السعودية هبة قيمتها مليار دولار لدعم الجيش اللبناني في أغسطس 2014، اتجه بعضها لشراء طائرات مروحية، ودفاعات جوية روسية. وزودت روسيا البحرين بصواريخ مضادة للدبابات من طراز "كورنيت إيه إم" Kornet-EM. كما أبرمت الإمارات والسعودية صفقات سلاح مستقلة لأغراضهما العسكرية الخاصة.
6- الشريك الاقتصادي: يتجاوز بعض أنماط التفكير العربي بشأن روسيا الجانب العسكري، والصفقات العسكرية، إلي عد روسيا شريكا اقتصاديا مهما، وسوقا واعدة للاستثمار، وهو ما تظهره نوعية الاتفاقيات التي أبرمت بين روسيا ودول الخليج العربية في عامي 2014 و .2015 ولقد تشكلت منذ فترة لجان حكومية روسية - خليجية للتعاون التجاري- الاقتصادي والتقني- العلمي، ومجالس أعمال مشتركة، ومنتديات للاستثمار. وعلي سبيل المثال، جري الإعلان عن إبرام اتفاق لإنشاء صندوق استثماري بقيمة تصل إلي أربعة مليارات دولار، يقوم بتمويل مشاريع مشتركة، ويسهم في تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية بين السعودية وروسيا، وذلك خلال اجتماعات اللجنة الروسية - السعودية المشتركة للتعاون التجاري الاقتصادي، والعلمي، والفني بين البلدين في نوفمبر 2015، وذلك إضافة إلي صندوق استثماري آخر بقيمة عشرة مليارات دولار، كان البلدان قد اتفقا علي إنشائه في شهر يوليو .2015 كما عقد الاجتماع الخامس للجنة المشتركة بين دولة الإمارات وروسيا أيضا في نوفمبر 2015، جري فيه الاتفاق علي زيادة الرحلات الجوية وتنوعها، وتعزيز التعاون في المجال السياحي، والنقل، والاستثمار، وجري توقيع مذكرتي تفاهم، الأولي في مجال التعاون الرياضي، والأخري في مجال الملكية الفكرية. وكانت زيارة ولي عهد أبوظبي إلي روسيا في سبتمبر 2013 قد شهدت توقيع الإمارات وروسيا مذكرة إعلان نوايا لإقامة شراكة استثمار مشترك بين دائرة المالية في إمارة أبوظبي، وصندوق الاستثمار المباشر الروسي للاستثمار في مشاريع البنية التحتية الروسية، تقدم بموجبها حكومة أبوظبي، ممثلة في دائرة المالية، استثمارا يصل إلي خمسة مليارات دولار.
وبالطبع، لا تسير العلاقات بين روسيا ودول المنطقة بالوتيرة نفسها. وعلي سبيل المثال، فإنه بعد الإعلان عن زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر، لروسيا في سبتمبر 2015، جري إلغاء الزيارة بصورة مفاجئة، ويرجح أن يكون ذلك علي خلفية الموقف القطري الرافض للتدخل الروسي في سوريا، وعلاقات قطر بتركيا. وبشكل عام، تشهد العلاقات الروسية - القطرية توترا بشكل مستمر، لأسباب تتعلق بدعم قطر لجماعات تراها معتدلة، بينما تراها روسيا إرهابية. كما تتنافس روسيا وقطر في أسواق الغاز الدولية. وكانت روسيا قد فازت بعقد توريد 38 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، ولمدة 30 سنة إلي الصين، في صفقة كبري بلغت قيمتها 400 مليار دولار. وكانت الدوحة تعول علي الصين كسوق مهمة للغاز القطري.
ثالثا - التدخل الروسي والعلاقات مع السعودية:
علي الرغم من أن بعض الدول العربية نظرت بارتياح إلي التدخل العسكري الروسي، فإن حسابات السعودية وقطر كانت مختلفة، حيث رأتا أن هذا التدخل سوف يطيل بقاء الأسد في السلطة، ومن ثم يزيد من تعقد الأزمة السورية. وتري قطاعات مجتمعية ونخب خليجية أن التدخل الروسي يشكل عدوانا يجب مقاومته، ولو بشكل مسلح. ويدعو البعض - خصوصا من التيارات السلفية - للنصرة والنفير لمصلحة تركيا، ويرون ضرورة استنساخ تجربة الجهاد الأفغاني ضد الروس في سوريا.
مع ذلك، تبقي هذه هي القراءة الظاهرة والمعلنة للموقف السعودي، ولقطاعات من الرأي العام الخليجي. لكن يمكن قراءة جوانب توافق مهمة بين الموقفين الروسي والسعودي. فبشكل عام، لم يبد أن التدخل الروسي قد أثر في منحني العلاقات الروسية - السعودية، بل أطلق دفعة جديدة في هذه العلاقات علي الأصعدة المختلفة، وهو ما أبرزته الاتفاقيات -سالفة الذكر- التي جري إبرامها في اجتماعات اللجنة العليا المشتركة التي انعقدت في نوفمبر 2015، وبعد التدخل العسكري الروسي.
وعلي صعيد الخيارات، فقد جري التدخل العسكري الروسي في وقت تأكد فيه عدم إمكان تشكيل تحالف أمريكي دولي يطيح ببشار الأسد، علي غرار التحالف الذي أطاح بصدام حسين. واتجهت أقصي الطموحات إلي دعم الجماعات المعتدلة في سوريا، أو تكثيف تركيا للضربات في المناطق الحدودية، والذي اتجه صوب الأكراد. أما عن خيار بناء منطقة حظر طيران في سوريا علي الحدود التركية، فقد تلاشي مع بدء الهجمات الروسية. ومن ثم، لم تكن هناك أي صيغة لتحالف عسكري دولي قادر علي الانتصار علي القوي الشيعية المدافعة عن نظام الأسد، وإنهاء التدخل الإيراني المباشر في سوريا.
ورغم ما يبدو من أن التدخل الروسي يتعارض مع السياسة السعودية، فقد حقق هذا التدخل، بشكل ضمني، فوائد لهذه السياسة تجاه سوريا، منها:
- إنهاء التردد في الموقف الدولي بشأن سوريا: حيث أنهي التدخل الروسي هذا التردد الدولي، الذي اقترب من العجز. وعلي الرغم من أن هناك دوافع وأسبابا أخري أجبرت القوي الكبري علي تطوير مواقفها، فإن التدخل الروسي كان هو المستجد الأهم، الذي أدي إلي تحريك جهود الحل السياسي، والذي تقوم السعودية بدور رئيسي فيه. وكانت دعوتها إلي عقد مؤتمر للقوي المعارضة السورية المعتدلة في الرياض - وقت إعداد هذه الورقة (8 و9 ديسمبر 2015) - مؤشرا واضحا علي ذلك.
- قطع الطريق علي الاستفراد الإيراني بالشأن السوري: مهما يكن من أبعاد، وعناصر توافق بين روسيا وإيران في سوريا، فإن هناك تباينات بين الموقفين، ربما تجعل الموقف الروسي أقرب إلي الموقف السعودي علي المدي البعيد، إذ تقترب كل من روسيا والسعودية بشأن الهدف الاستراتيجي المستقبلي، وهو الإبقاء علي سوريا موحدة، علي خلاف التحرك الإيراني الذي ينطلق من منظور طائفي. فلا تعني إيران بعودة سوريا عربية، أو بعودة المكنون العربي إلي سياسة النظام السوري وأيديولوجيته، وإنما تهتم بقدر المستقطع من سوريا ضمن الهلال الشيعي. بينما تستهدف روسيا الإبقاء علي الدولة الوطنية في سوريا. ومن ثم، فمهما يجر من اختلاف علي التدخل الروسي، فإنه يؤدي إلي مناهضة تكوين سوريا طائفية، وهو ما يصب في قلب المصلحة الاستراتيجية السعودية، في مقاومة المحور الإيراني، ومنع تشكل سوريا إيرانية.
وعلي الرغم من ذلك، تظل هناك احتمالات لخلافات سعودية - روسية مقبلة، لأسباب عديدة، منها أنه ليس هناك رصيد مجتمعي وثقافي خليجي يؤهل للعلاقة الاستراتيجية مع روسيا، علي غرار الرصيد الغربي والأمريكي في الخليج، الذي تراكم عبر ثمانية عقود من شراكة استراتيجية شاملة اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، وثقافية، وتعليمية .. وغيرها. ومن ثم، فإذا قررت القيادات الخليجية توجيه البوصلة السياسية صوب علاقة تحالف استراتيجي مع روسيا، فإن ارتباط المجتمعات الخليجية بالغرب، وبنمط الحياة الغربي سيظل مؤثرا، وربما يعرقل التوجه السياسي، خصوصا في ظل وجود تيارات لا تزال نظرتها إلي روسيا متوقفة عند حقبة الجهاد في أفغانستان، وهو ما عكسته بيانات معاقل الفتوي، ومراكز الفكر الديني في بعض دول الخليج، علي أثر التدخل الروسي.
وهنا، من المهم لدول الخليج العمل علي إعادة التأهيل الاجتماعي الداخلي، وتصحيح النظرة والمفاهيم بشأن روسيا، وإعادة قراءة سياستها، في ضوء المصالح الجديدة مع الخليج، وإعادة اكتشاف دورها، ومساعدتها علي إعادة هندسة هذا الدور لكي يكون متوازنا مع متطلبات المنطقة.