في صيف (٢٠١٠) بدا العقيد الليبي معمر القذافي منشغلاً بمستقبل النظام المصري بأكثر مما هو معتاد. أخذ يستقصي ويسأل كل من يعتقد أنه مطلع على ما يجرى في كواليس الحكم وردهات المعارضة. كانت الشواهد أمامه تقول إن نظام حسني مبارك تصدع بصورة خطيرة والنهايات لم تعد بعيدة.
غير أنه لم يخطر بباله أن ينظر داخل نظامه ليرى تصدعاً آخر يؤشر إلى قرب نهايته هو.
لم يكن أحدهما يحمل للآخر في الغرف المغلقة أدنى احترام، لكنهما توصلا إلى «صيغة تعايش» اقتضتها المصالح المشتركة بين نظاميهما والحدود الممتدة بين بلديهما.
عند مطلع العام التالي (٢٠١١) أطيحا على التوالي بسيناريوهين مختلفين، والفوضى الليبية الضاربة داهمت الحدود المصرية بصورة لا مثيل لخطورتها على أمنها القومي المباشر.
عبر الحدود تدفقت ترسانات من السلاح المتقدم وإرهابيون مدربون على استخدامه.
رغم ارتفاع منسوب التحكم في الحدود إلا أن الهاجس الأمني مازالت له الأولوية في الانشغال المصري بالتطورات الليبية.
هذه حقيقة لها وجهان:
الأول، إيجابي من حيث ترتيب الأولويات والأوراق وصياغة المواقف والسياسات.
والثاني، سلبي من حيث القدرة على التفاعل مع المتغيرات، فلا أمن بلا سياسة.
بصورة أو أخرى لا تبدو الدبلوماسية المصرية الآن على ذات قدر الوضوح الذي كانت عليه قبل فترة في إدارة الأزمة الليبية.
لماذا الغموض الآن حيث توضع الأوراق كلها فوق المائدة؟
من ناحية دبلوماسية «الخارجية المصرية» رحبت باتفاق «الصخيرات» الذي يطلق عملية سياسية جديدة بين الفرقاء الليبيين تحت رعاية أممية. غير أنها لم تبد حماساً يتجاوز عبارات الترحيب الفاتر. وزير الخارجية سامح شكري لم يحضر بنفسه حفل التوقيع على الاتفاق.
الدبلوماسيون الإيطاليون، الأكثر اهتماماً أوروبياً بالملف الليبي، حاولوا أن يجدوا تفسيراً دون جدوى تقريباً لقلة الحماس المصري للعملية السياسية.
أي تفسير خارج السياق العام لحركة الأحداث هو خاطئ مقدماً. المصريون كما الليبيين يعتقدون أن التدخل العسكري الغربي الذي أسقط العقيد القذافي يتحمل المسؤولية الأساسية عن الفوضى المسلحة التي ضربت ليبيا في عمق وجودها كدولة.
كان تدخل «الناتو» مدمراً سياسياً، أسقط القذافي وترك ليبيا لمصير مرعب تتنازعه الميليشيات. لم يكن هناك جيش بأي معنى يضمن الحد الأدنى من الأمن وتماسك الدولة، فقد جرى تحطيمه على مرحلتين.
الأولى: بالتفكيك المنهجي الذي اتبعه العقيد القذافي، حتى إن آخر وزير دفاع اللواء أبوبكر يونس لم يكن مخولاً بأي دور حقيقي.
والثانية: بإنهاء وجود الجيش كله وتصدر الميليشيات باختلاف أنواعها ونزعاتها المسرح السياسي المحطم.
بعض الأطراف الإقليمية حاولت تنصيب بعض زعماء الميليشيات قادة جدداً يدينون بالولاء لها. كان ذلك من بين أسباب تقويض نتائج الانتخابات النيابية مرتين، فحكم الميليشيا أقوى من أي عملية سياسية. جرى التلاعب بالحكومات المنتخبة لأنه لم يتوافر لها أي قدرة على حفظ الأمن.
القضية الرئيسية الحقيقية هي القدرة على حفظ الأمن وفرض السيطرة على الأرض. هيبة الحكومات من قدرتها على فرض الأمن، وإلا فإنه سوف يتكرر مرة أخرى السيناريو نفسه.
ميليشيات خارج القانون تطيح بالحكومات، تحتجز رؤساءها وتملي شروطها وتغير من قواعد اللعبة بحسب ما يصل إليه سلاحها. عند هذا الحد فوجه التحفظ طبيعي وضروري..
وإنكار أسبابه تهويم في الفراغ.
غير أن التحفظ وحده لا يكفي إن لم تسنده سياسة قادرة على التأثير في الأحداث وطرح البدائل الممكنة وسط حسابات متعارضة.
بصورة ما دخلت موسكو على خط الأزمة الليبية لتعلن حضورها في كل أزمات الإقليم وأنها طرف لم يعد ممكنا تجاهله. بقدر آخر تحركت روما بالنيابة عن المعسكر الغربي كله، توافق القاهرة على ضرورات الحسم لكنها تماشي حسابات الشركاء الآخرين بحثاً عن مصالحها الاستراتيجية.
في الوقت نفسه تكاد دول الجوار العربي لليبيا، مصر والجزائر وتونس، أن تتوارى إلى خلفية المشهد لا بين صناعه الكبار.
لا يوجد ما يؤكد أن هناك تفاهماً حقيقياً على الخطوات التالية بين هذه الدول رغم أنها لا تخفي خشيتها من أن تفلت الأزمة الليبية فتتمدد فيها «داعش» وتستحيل إلى خطر داهم جديد على أمنها.
غياب أي سياسة معلنة وواضحة أمام المتغيرات الجديدة لا يفيد قضية الأمن ويضر في الوقت نفسه بالحضور الدبلوماسي ويتجاوز ما هو طبيعي إلى ما هو غير مفهوم.
من الطبيعي أن تتشكك الدبلوماسية المصرية في قدرة حكومة التوافق الوطني المقترحة على «إنهاء الترتيبات الأمنية الضرورية لإشاعة الاستقرار في ليبيا» أو على «ممارسة سلطاتها الكاملة على مقدرات ليبيا النفطية والمالية» بصياغة قرار أصدره مجلس الأمن دعماً لاتفاق «الصخيرات».
لا تنسوا أن ليبيا دولة نفطية كبيرة والمصالح تلازم أي حديث دولي عن فرض الأمن و«دحر داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى مثل «جبهة النصرة» و«أنصار الشريعة». رغم العبارات الأممية الصارمة في الدعم الكامل والشامل للحكومة المقترحة فإن المهمة ليست سهلة ولا هينة والشكوك طبيعية في مدى قدرة المجتمع الدولي على الالتزام بما ألزم نفسه به من محاسبة من يعرقل العملية السياسية.
لا يكفي أن يقال إن أسماء جديدة سوف تضاف للعقوبات الأممية لكل من هو مرتبط بتلك التنظيمات الإرهابية. فالمعادلة السياسية الليبية تتداخل فيها اعتبارات بالغة التعقيد وهناك تحفظات جوهرية متبادلة بين الفرقاء. من يمثل من؟ ومن يضمن الأمن؟ السؤال الأخير جوهر اللعبة كلها.
السياسة هنا لها الأولوية في الإجابة عن سؤال الأمن. بقدر حيوية الحركة تتأكد القدرة على ضبط المسارات الرئيسية.
بالنسبة لمصر فإن فكرتها الرئيسية إعادة بناء الجيش الليبي وأن يخول وحده مسؤولية حفظ الأمن. فمن ينزع سلاح الميليشيات؟ ومن يتول إعادة بناء الجيش مؤسسة القوة الأولى؟
راهنت مصر على اللواء خليفة حفتر، فإلى أي حد يمكنها أن تضمن وجوده على رأس الجيش الوطني الليبي أمام ضغوطات دولية غير مستبعدة سوف تعمل على إطاحته؟
التساؤلات الجوهرية تطرح نفسها الآن والسياسي قبل الأمني.
هذا يستدعي إعادة بناء الرؤية السياسية من جديد لإتاحة فرصة حقيقية أمام الليبيين لتجاوز محنتهم وحفظ مقتضيات الأمن المصري في الوقت نفسه.
-----------------------
* نقلا عن دار الخليج، 27-12-2015.