تحوّل الصراع في سوريا بين النظام السياسي وفصائل المعارضة إلى صراع إقليمي بين إيران من جهة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى، وإلى صراع دولي بين السياستين الأميركية والروسية المتحالفتين معهما. وبرغم صراخ الطرفين الداخليين (المعارضة والنظام) و «عنترياتهما» وتصريحاتهما النارية، فإن الحل والربط أصبح الآن بيد الدول المشار إليها.
صرّح الرئيس السوري بشار الأسد أنه يقبل التفاوض على أن يكون الطرف الثاني المفاوض لم يحمل السلاح وغير إرهابي. وأشار إلى أن جميع منظمات المعارضة المسلحة هي منظمات إرهابية، بحسب وجهة نظره، ولذلك فهو لن يفاوضها. وهذا يعني أنه هو الذي وضع معايير تعريف المنظمات الإرهابية من جهة، واعتبر أن جميع مَن حمل السلاح من المعارضة هو إرهابي من جهة أخرى. ولعله أراد من ذلك رفض التفاوض من أساسه، لأنه يعني، من خلال تصريحاته، أنه لا يرغب بأي تفاوض مع أي فصيل معارض، باستثناء مَن يسمّيهم هو بنفسه مفاوضين، لأن هؤلاء هم الوحيدون غير الإرهابيين. هكذا، فإن تصريحاته المشيرة إلى قبول التفاوض ما هي إلا تكتيك لن يؤدي في النهاية إلى بدء المسيرة السياسية.
بدورها، وضعت المعارضة السورية المجتمعة في الرياض برنامجاً تفاوضياً مرتفع السقف قياساً لما يمكن أن يقبل به أهل النظام. ولعل أهم نقاط هذا البرنامج تمثلت بعدم مشاركة الرئيس الأسد ومعاونيه ورموز السلطة القائمة الآن في أي محادثات أو ممارسات مع بدء المرحلة الانتقالية. وبالتالي فإن هذا يعني أن وفد المعارضة لن يتمم مفاوضاته إلا بعد رحيل الأسد، الذي صرّح أكثر من مرة هو ومعاونوه بأنه يرفض المرحلة الانتقالية برمّتها ولن يقبل بها. وعليه، فمن البديهي أنه يرفض الرحيل.
من طرف آخر، صرحت الخارجية الإيرانية أنها لن تعترف بمؤتمر المعارضة السورية الذي اجتمع في الرياض، وهي استطراداً ترفض البرنامج وخريطة الطريق التي تبنّاها حتى لو تعارض ذلك مع «مؤتمر فيينا» الذي شاركت في أعماله. وكان المسؤولون الإيرانيون، على مختلف مستوياتهم وصولاً إلى المرشد الأعلى، رفضوا بإصرار رحيل الرئيس الأسد إلا بقرار الشعب السوري الذي يتعذّر أخذ قراره عملياً. وعليه، غدت إيران واقعياً هي المرجعية الحقيقية للنظام لانسجامها مع متطلباته.
أما فصائل المعارضة السورية التي اجتمعت في الرياض، فقد انتخبت هيئة عليا وكلفتها باختيار الوفد المفاوض وبأن تكون مرجعية له خلال المفاوضات وتحديد إقامتها في الرياض. وهذا يعني على نطاق الواقع أمرين مهمين: أولهما تهميش جميع فصائل المعارضة وإعطاء صلاحياتها السابقة إلى «الهيئة العليا» وتنحية هذه الفصائل عن التدخل في شؤون المفاوضات إلا عن طريق ممثليها في هذه الهيئة، وليس لأي طرف من أطراف المعارضة عدد أعضاء في «الهيئة العليا» قادراً أن يوجه قراراتها. وعليه، يأتي الأمر الثاني وهو أن السياسة السعودية ستكون هي المرجعية الحقيقية لهذه الهيئة وللوفد المفاوض.
إن صحّ هذان الاستنتاجان، فإن المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية هما الأقدر على التفاوض نيابة عن الشعب السوري وعن النظام السياسي، وعلى تجاهل جميع فصائل المعارضة والسلطة السياسية وشركائها، أي أن الحل يأتي من خلال مباحثات الدول الإقليمية. ولأن إيران مستقوية بروسيا والسعودية مستقوية بدول إقليمية وبالولايات المتحدة وأوروبا، فإن الحل أصبح إقليمياً ودولياً في آن، ولم يعد لأطراف الصراع المحليين (سلطة ومعارضة) دور حقيقي في حل مأساة بلدهم. ولهذا فإن تصريحاتهم وصراخهم لا جدوى منها، وهي مجرد كلام في كلام واستعراض وهمي للقوة أمام أنصارهما، والأمر يعود برمّته لغيرهما أي للدول الإقليمية وغير الإقليمية. وهذا يعني في نهاية المطاف أن حلّ الصراع السوري والوصول إلى تسوية سيكون نتيجة صفقة بين هذه الدول التي لم تتفق بعد على تقاسم المصالح في سوريا وفي المنطقة.
يؤدي هذا الواقع بطبيعة الحال إلى تعدّد عقد مؤتمرات دولية وإقليمية ومحلية، تهدف جميعاً إلى كسب الوقت ريثما يتفق أصحاب الشأن على حل يُرضي كلاً منهما. وقد يكون هذا الحل قريب الحصول كما قد يكون بعيداً في ضوء محادثات الكبار وتقاسمهم قطعة الجبن. ويصعب على الجميع في مثل هذه الظروف توقع نهاية حقيقية للأزمة السورية، ومن المفهوم أن البعض يرى أن التسوية قريبة الحصول بينما يراها البعض الآخر بعيدة، ويبدو أن موسكو وواشنطن ما زالتا غير مستعجلين للوصول إلى تسوية سورية. كما أن كلاً منهما وخاصة الرئيس الروسي يستمتعان باللعب بالكلمات واستعراض القوى على حساب السوريين وآلامهم.
هكذا، للأسف الشديد، تحوّلت الأزمة السورية والمأساة الناجمة عنها إلى مساومات بين الدول الإقليمية وبين الدول الكبرى، ولم يعد أحدٌ يهتم بالأزمة نفسها وبدمار سوريا ومأساة شعبها وصراع فئاته الاجتماعية والسياسية. لقد صارت المأساة قضية مشادة بين الدول الكبرى التي يسعى كل منها لزيادة حجم مكاسبه والمناورة بعضها على البعض الآخر، وكل منها يزعم أنه يعمل لمصلحة سوريا والشعب السوري، لقد اختلط الحابل بالنابل وأصبحت المنهجية التي يجب العمل بها لتفكيك الأزمة السورية، أوهاماً في رؤوس قيادات الدول الكبرى ودهاليز مؤسساتها السياسية ومصالحها الاستراتيجية. ولم تعُد القضية قضية سورية صرفة تحتاج لعون هذه الدول، بل أصبحت قضية دولية تلامس اهتمام كل دولة وتدخل بعمق مصالحها.
في ضوء هذا كله يمكن فهم ما جرى في الرياض. فقد كان المؤتمر برمّته عاملاً في نقل المسألة من مسألة محلية وإيداعها الصراع الإقليمي والدولي، وتكليف السياسة السعودية عملياً بمتابعتها بل وتعهّدها، واعتبار هذه السياسة هي المرجعية الصالحة للتحدّث باسم المعارضة السورية وتوجيه الوفد المفاوض فيما إذا حصلت مفاوضات. هكذا، همّشت فصائل المعارضة نفسها وتخلت عن دورها في الصراع إلا ما ترغب السعودية في تكليفها به. ولم يعُد لأي فصيل من هذه الفصائل دور يقوم به، وعلى الغالب فإنها ستنتظر وقتاً طويلاً قبل أن يسألها أحد رأيها. وهكذا أُلغيت فصائل المعارضة بضربة واحدة لم تكلّف جهداً ولم تخطئ هدفها. ولا تخرج المعارضة المسلحة عن هذا الإطار، فهي رهينة للموجة الجديدة والمتعهد الجديد للأزمة السورية وصاحب مرجعيتها، وقد وافقت تركيا وقطر على هذا الموضوع وانتقل ثقل تواجد المعارضة من اسطنبول إلى الرياض، ولا يمكن للمعارضة المسلحة أن تخالف مموّليها ومساعديها لأنها من دون مساعداتهم ستضمُر وتضمحلّ إلا إذا لجأت لوسائل غير مشروعة.
أما النظام فإنه يستقوي بشكل كبير بحليفيه الروسي والإيراني، ما يتيح له أن يعبر عن رغباته أكثر مما يعبر عن إمكانياته. فهو في الواقع غارق بالرغبة على حساب القدرة، ومازال موهوماً بإمكانية الانتصار العسكري. ومن البديهي أن هذا الهدف بعيد المنال، وإذا كان هو الوحيد في الساحة فلن ينتهي الصراع لسنوات طويلة وسيبقى بين كرّ وفرّ، وعلى ذلك فمن المفروض بالنظام ألا يقفز بالفراغ، فحلفاؤه لهم معايير وأهداف مختلفة عن معاييره وأهدافه، ولذلك فإن القفز في الفراغ قد يكسر الظهر.
نلاحظ إذاً أن الصراع إقليمي ودولي وأن موقف النظام والمعارضة صدى لهذا الصراع، وإنما يكبّر كل منهما حجره في ضوء أمله بحلفائه ومن يكبّر حجره لا يصيبُ هدفاً، وقد اختلط الأمر على كل من النظام والمعارضة فأضاع كل منهما الطريق ولم يعد يعرف حدوده ومدى مطالبه والتفريق بين رغباته وقدراته. وهذه الظروف والشروط القائمة أتاحت لحلفاء الطرفين أن يستخدموا العمل لحل الأزمة السورية وسيلة لتحقيق أهدافهم، حيث لم تعد هي بذاتها هدفاً.
----------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 19-12-2015.