انعقدت القمة الخليجية السادسة والثلاثون بالرياض في أجواء التفاهم الاستراتيجي المكرس بين الدول الست، وواقع الحال أن التئام اجتماع القادة الخليجيين بصورة دورية منتظمة ومن دون عقبات تذكر، يرسخ الكتلة الخليجية باعتبارها أحد أهم التكتلات الإقليمية في منطقة تغلب على مكوناتها شتى أشكال التعارضات والتوترات.
ومنذ أزيد من ثلاثة عقود، فقد صمد إطار مجلس التعاون أمام الرياح العاصفة التي هبت على الإقليم وحافظ على تماسكه، في وقت اندثرت فيه تكتلات أخرى. ومن المفارقة أن مجلس التعاون يبدو أكثر تجانساً ودينامية حتى من الإطار العربي الأقدم والأوسع وهو الجامعة العربية، ولدرجة يبدو معها تماسك مجلس التعاون ضمانة لاستمرار وجود الجامعة نفسها.
القمة الأخيرة التي اختتمت أعمالها الخميس 10 ديسمبر/كانون الأول انعقدت في ذروة التوترات التي يشهدها الإقليم من ليبيا إلى اليمن ومن سوريا إلى العراق، إلى إرهاب عابر للحدود وكذلك لاجئين عرب عابرين للحدود، وقد شددت القمة على الحلول السياسية للأزمات الملتهبة هنا وهناك، اهتداء بقرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة، وبالتساوق مع الجهد الدولي المبذول في هذا الاتجاه. ولدول المجلس مجتمعة ومنفردة تأثير كبير في الفرقاء، وليس أدل على ذلك من اجتماع قوى المعارضة السورية في العاصمة السعودية بالتزامن مع القمة الخليجية ، وفي سبيل التوصل إلى تشكيل وفد مفاوض موحد وفقاً لمخرجات اجتماع فيينا. كذلك الأمر في اليمن، فالأنظار تتطلع إلى عقد اجتماع برعاية الأمم المتحدة في جنيف هذه الأيام من أجل إحلال السلام في هذا البلد وإعادة الأمل إلى شعبه، بعيداً عن التدخل الإقليمي في شأن هذا البلد.
بخصوص اليمن لم تتوقف القمة عند تأكيد الموقف المشترك لدول الخليج من أجل تسوية تهتدي بالقرارات الدولية وتلتزم بها، فقد أقرت القمة كما كشف أمين عام المجلس عبد اللطيف الزياني التحضير لعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار اليمن، ولا شك أن إعادة الإعمار وإنقاذ الاقتصاد اليمني من الكارثة التي حلّت به تضاهي في أهميتها التوصل إلى حل سياسي مشرف، يعيد إلى اليمنيين ودولتهم ما سلبه الانقلابيون من أمن وسيادة وممتلكات.
وهو ما ينسحب على الوضع في ليبيا حيث يتجه الوضع إلى الانفراج وتزداد الآمال بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضع حداً للانقسام والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، وتقطع دابر الإرهاب الذي تسلل إلى هذا البلد وبات يهدد حاضره ومستقبله، كما يهدد دول الجوار وشعوبها.
ولا شك أن انفراج الأزمة السياسية سوف يساعد إلى حد بعيد في تطويق الإرهاب بأمل الوصول إلى استئصال شأفته. كذلك الأمر في العراق وفي سوريا فكلما زادت فرص التوصل إلى حلول سياسية جدية على قاعدة من العدالة ، فإن ذلك من شأنه محاصرة الإرهاب من أي مصدر أتى، وبما يضمن استعادة السيادة والاستقلال بعيدا عن التدخلات الأجنبية أياً كان مصدرها.
وقد سبق لدول مجلس التعاون أن دعت لخروج القوات الأجنبية من هنا وهناك، والتطلع لحلول وطنية جامعة. ورغم ما يبدو على السطح بعض الأحيان من تباينات طارئة قد تدور حول التفاصيل، فمن الواضح أن القمة الأخيرة كرّست التفاهم الاستراتيجي حول أمن المنطقة واستقرارها وتماسك المنظومة الموحدة، ودرء أي مخاطر محتملة أياً كان مصدرها، والتعاون مع المراكز والقوى الدولية على قاعدة قرارات الشرعية الدولية حيال القضايا ذات العلاقة، وفي إطار التعاون البناء الذي يفتح الأبواب أمام الحلول والتسويات الجادة للمشكلات، مع إيلاء اهتمام متجدد بالقضية الفلسطينية أم المشكلات في منطقتنا، حيث ما زال الاحتلال الصهيوني البغيض يتنكر للقرارات الدولية، ويواظب على ممارسات فظة ضد الشعب الرازح تحت الاحتلال وكذلك ضد معالم الأرض المحتلة ، وكما يتجلى ذلك في الغزو الاستيطاني والمساس بالأماكن الإسلامية المقدسة في القدس الشريف.
في ضوء التطورات المتسارعة فإن المرحلة المقبلة في حياة الإقليم تتطلب المزيد من الجهود والتنسيق بين مكونات المنظومة الخليجية، بهدف المساهمة الفاعلة في حل أزمات الإقليم بصورة مرضية وناجعة، وبالتعاون مع الأطراف العربية والصديقة والدولية، علماً بأن ثمة أطرافاً تسعى لاستغلال أية تباينات خليجية آنية، من أجل الحد من الجهد الخليجي وعرقلته ومنع مساهمته بصورة فعالة في إرساء الحلول.
إن تقهقر مركز الجامعة العربية واضمحلال دورها، يتطلب ملء الفراغ بعملٍ متكتل وذي صيغة جماعية، ومجلس التعاون هو المؤهل لأداء مثل هذا الدور الذي لا يحل بطبيعة الحال محل الجامعة، بل يتدارك النقص الذي تسبب به انسحاب مؤسسة الجامعة من أداء دورها في إطفاء الحرائق العربية، وفي التصدي لمخاطر الإرهاب، والتدخلات الخارجية التي تخرج عن نطاق التعاون.
ولا ريب أن النجاح الذي حققه إطار مجلس التعاون في التصدي للأزمات الإقليمية خلال السنوات الأخيرة على الخصوص، يستحق البناء عليه واستكماله، مع ملاحظة أن بعض هذه الأزمات باتت تشهد طوراً متقدماً وربما أخيراً من أطوارها، ما يؤكد الحاجة لمزيد من الجهد والعمل الجماعي الخليجي الذي يلقى تفهما وترحيبا في عالمنا، ومن أجل رؤية نهاية إيجابية لهذه الأزمات تستجيب لتطلعات الشعوب في الأمن والحرية والكرامة، وليس مجرد استراحة مؤقتة للمتقاتلين.
-------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 14-12-2015.