حينما تكون بعيدا عن الوطن فإن الحقيقة تكون أنك تقترب منه أكثر لأن وسائل التكنولوجيا المعاصرة تجعل المتابعة، والتفاعل، أكثر كثافة. هناك دائما ما يكفى من الوقت لكى تتحدث، وتقرأ، وتشاهد، وهو ما يعز كثيرا عندما تكون فى القاهرة. ومن هذه الزاوية فإنه يبدو هناك فجوة متزايدة بين السلطة السياسية فى ناحية، والمثقفين والمفكرين، وحتى الخبراء فى قطاعات بعينها، من ناحية أخرى. الطرفان يقعان استراتيجيا فى خندق واحد مقاوم للإرهاب، والدولة الدينية، وحلفاؤهما فى الداخل والخارج. باختصار فإن جماعة الإخوان وتابعيها وأمثالها من جماعات قاتلة تستهدفهما معا؛ وهى لن تنسى أن تحالفهما معا استنادا إلى قاعدة شعبية واسعة جدا قاد إلى الإطاحة بهم وحرمانهم من أدوات الحكم. ومع هذه العلاقة الاستراتيجية فإن فجوة قامت بين الطرفين حول التغيير المطلوب فى مصر وأدواته حول قضايا متعددة تبدأ من التمييز لدى المثقفين بين تقدير ما تقوم به السلطة فى الحرب ضد الإرهابيين، ولوم على تقصير فى الحرب ضد الإرهاب. وتتسع الفجوة أكثر عندما يتعلق الأمر بأدوات الحكم، واختيارات الوزارة والمشروعات القومية، وقائمة تطول مع الزمان والممارسة.
فى البداية فإن التوتر بين السلطة والمثقفين سمة بديهية من سمات المجتمعات الحديثة؛ فالأولى معنية بالواقع، وفى الأول والآخر فإن من يده فى النار ليس كذلك الذى يده فى الماء؛ والثانية معنية بالفكرة ودراستها على ضوء تجربتنا وتجارب الآخرين، وفى الأول والآخر لا ينبغى إعادة اختراع العجلة. وأظن أن د. سعد الدين إبراهيم فى الثمانينيات من القرن الماضى كان من أول من ناقش القضية فى ورقة ذاعت وقتها، وحاول فيها «تجسير الفجوة»- أى إقامة الجسورـ بين السلطة والمثقفين. كان الوقت غير الوقت، والقضايا غير القضايا، ولكن لب الموضوع لايزال واحدا مع اختلاف جوهرى وهو أن ما كان فجوة فى الماضى كان فى حقيقته صراعا؛ أما الآن فإن الفجوة حادثة بينما كلاهما فى صف واحد.
وحتى لا تضيع القضية بين الأطر النظرية فإن مثالا عمليا ربما يضعنا على أول الطريق، ويصل بنا إلى أول الجسور. فلعل مشروع إضافة مليون ونصف مليون فدان إلى الأرض الزراعية يضع ثلاث نقاط للخلاف: الأولى أن تحرير الاقتصاد من الاختناق البيروقراطى ينبغى أن يكون له الأولوية على فلسفة التنمية عن طريق المشروعات القومية الكبرى. والثانية أن الصناعة والخدمات هما طريق مصر للتقدم الاقتصادى وليس الزراعة التى تحتاج مياها غير متاحة إلا بتكلفة عالية، كما أنها أقل قدرة على التشغيل وتحقيق التراكم فى رأس المال، وأخيرا فإن تجاربنا معها من أول مديرية التحرير وحتى توشكى لم تكن مما يبشر أو يحفز. والثالثة أن المشروع ذاته لا يتمتع بقدر كبير من الشفافية، فلا دراسات نشرت، ولا معارف أشهرت، ولا تمويل عرف؛ وما تسرب من معلومات يكفى للقلق. المتاح هو الثقة الشخصية فى الرئيس عبدالفتاح السيسى وتجربته الأولى مع المشروعات العملاقة فى قناة السويس الجديدة. النقاط الثلاث خلقت فجوة فيما يتعلق بالمشروع، خاصة أن الحجج هنا وهناك لم تتفاعل، فضلا عن أن تتلاقى بشكل كاف.
الدكتور محمود عمارة حاول فى مقال «خطاب مفتوح لسيادة الرئيس» (المصرى اليوم الأحد 2015/10/11) أن يعبر الفجوة بطريقة بناءة تقوم على القبول بالمشروع ولكنها تختلف فى التطبيق، وتقدم رؤية بديلة تأخذ به إلى آفاق التنمية الشاملة لمنطقة هى من أكثر مناطق مصر تخلفا وإنتاجا للإرهاب. فالمسألة لم تعد زيادة الرقعة الزراعية، أو تحقيق اكتفاء ما من السلع الغذائية، أو توزيع أرض منتجة على الشباب؛ وإنما باتت تنمية اقتصادية شاملة فيها الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والسياحة والتصدير. باختصار فإن ٦٠٠ ألف فدان فقط فى المنيا يتم فيها زراعات غير تقليدية مثل الزهور والزيوت العطرية ونباتات الزينة يمكنها أن تحقق طفرة اقتصادية كبيرة ليس فقط للمنيا أو حتى للصعيد، وإنما لمصر كلها. هنا فإن د.عمارة لا يرفض التنمية الزراعية كلية، وإنما يراها تنمية فى العالم المعاصر، حيث تتشابك أبعاد كثيرة لا أظن أن البيروقراطية قادرة على استيعابها وتطبيقها فى مشروعهم ببساطة لأنهم لا يعرفون الكثير عن العالم المعاصر.
من يريد تفاصيل أكثر لمشروع د.عمارة عليه أن يعود للمقال، ولكن من يراه تعبيرا عن محاولة «تجسير الفجوة» مع السلطة من خلال حوار بناء يقوم على أفكار عملية فإن ذلك يأخدنا إلى العديد من القضايا الأخرى المشابهة. وبالمصادفة فإن يوم كتابة المقال (الأربعاء الماضى) جرى الإعلان عن نية الحكومة فى طرح مدينتى «العاصمة الإدارية» و«العلمين». فى نفس اليوم تم الإعلان عن نية الحكومة لطلب قرض قدره ٣ مليارات دولار من البنك الدولى. هل هناك علاقة بين الموضوعين ليس هو القضية، ولكن المسألة تبدو وكأن هناك طموحا كبيرا محمودا فى جانب؛ وقصورا كبيرا فى الموارد على جانب آخر. حجر الزاوية هنا هو أن كافة «المشروعات القومية» مع افتراض كفاءتها من الناحية الاقتصادية سوف تستغرق وقتا من ناحية، كما أنها سوف تقتضى أموالا عامة من ناحية أخرى مما يعنى مزيدا من العجز فى الموازنة العامة، يليه التضخم، والمزيد من الاستدانة.
العجب فى الأمر أن لنا تجارب كثيرة وجيدة فى بناء المدن؛ ولا يحتاج الأمر لأكثر من النظر إلى مدينتى ٦ أكتوبر جنوب غرب العاصمة، والقاهرة الجديدة فى شمال شرقها، وسوف نجد حزمة كبيرة من الخدمات والصناعة والتصدير والجامعات فى مدن حديثة أو للدقة أكثر حداثة وإنتاجية من ٣٠ مدينة أخرى جرى بناؤها خلال العقود الثلاث الماضية. هل من الممكن أن نأخد من كليهما درسا يتم البناء عليه بحيث يصير متاحا تمويل كاف للبناء، وضرائب للدولة، تغنيها عن سؤال اللئيم؟ وهل نحتاج فعلا لعاصمة إدارية بحيث تدفعنا الحاجة إلى الانتقال إليها؛ أم أن دوران الزمان سوف يجعلها تكرارا لمدينة السادات التى كانت هى الأخرى مشروعا لعاصمة إدارية؟ الثابت أمامنا من حركة العمران المصرية أن القاهرة بالفعل تتجه شرقا باتجاه ساحل خليج السويس وعين السخنة؛ وكل ما نحتاجه لا يزيد على أن تكون الحكومة جادة فى تحرير هذه الحركة من القيود الواقعة عليها. فليس معقولا أن تفتح بابا لبيع الأراضى فى مشروع «بيت الوطن» لمرحلة رابعة وأخرى خامسة بينما لم يتم بعد استيفاء المتطلبات القانونية للمرحلة الأولى التى تمت منذ عامين. لا نتحدث هنا عن المرافق، أو البنية الأساسية، وإنما نتحدث عن البنية القانونية التى تتيح للمستثمرين القدرة على الاستثمار.
الواضح أن لدينا معادلة صعبة تحتاج إلى حل. أحد طرفيها أن المثقفين والسلطة السياسية يتفقان على ضرورة تحقيق طفرة تنموية فى البلاد، تماما كما يتفقان على ضرورة مواجهة الإرهابيين؛ ولكن على الطرف الآخر هناك خلاف غير معلن على أسلوب ووسائل تعبئة الموارد القومية لتحقيق الأهداف المنشودة وأولوياتها فبينما يتزايد اعتماد الحكومة على الموازنة العامة، فإن الواقع يطرح بشدة ضرورة الاعتماد على المستثمرين المصريين يعملون فى مناخ استثمارى كذلك الذى تعرفه البلاد المتقدمة الأخرى. العجيب فى الأمر أن أكثر المشروعات القومية نجاحا (قناة السويس)، اعتمد على التمويل المباشر للشعب المصرى.
فى بلاد أخرى فإن الانتخابات النيابية تكون المناسبة العظمى لطرح الأفكار الكبير منها والصغير؛ ولكن للأسف فإن هذا التقليد لم يأت إلى مصر بعد، فضلا عن استقراره كتقاليد للنظام السياسى يسير عليها. لذلك لا يوجد بديل عن الحوار المباشر لتجسير الفجوة بين الحكومة والمثقفين والخبراء فى المشروعات المختلفة التى جميعها من الخطورة والأهمية بحيث لا تترك لا للحكومة وحدها، ولا للخبراء وحدهم.
------------
* نقلا عن المصري اليوم، 19-10-2015.