ألغى «مؤتمر فيينا» السوري مساراً سياسياً ملتبساً من عمر الحرب على سوريا، ويتوّج مساراً سياسياً عبّدت طريقه الغارات الروسية الجوية، وصمود أجهزة الدولة الرسمية العسكرية والادارية والمالية طوال الأعوام الخمسة الماضية. المسار السياسي الجدّي الموصل الى تسوية ما، كان من شبه المستحيلات قبل شهر. لا بل كانت المؤشرات التي تدل إلى حسم عسكري يكسر النظام تتزايد يومياً. «الدواعش» على باب دمشق لا بل في وسطها (جوبر والمخيم)، وأجهزة الدولة منهكة، بينما تنعم مناطق الأقليات الدينية والعرقية شبه الصافية، باستقرار نسبي، متمسكة باعتبار نفسها من النسيج الوطني السوري.
صحيح أن تفسيرات متناقضة تخرج على مدار الساعة لبنود مؤتمر فيينا، الا أن الثابت انه يدفع باتجاه حل سياسي يبقى فيه بشار الأسد على رأس الدولة السورية. النقاش الآن يدور حول مدة الفترة الانتقالية، أو هل تتحوّل من مؤقتة إلى ضرورية فدائمة. بالنسبة لدمشق، لا وجود لفترة انتقالية. هناك «حكومة موسّعة وحوار وطني» بعد القضاء على الارهاب. وولاية الأسد الرئاسية دستورية وشرعية. وحقه في الترشح إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، حق يكفله الدستور.
بالنسبة للغرب تتراوح المواقف، بين مَن يريد رحيل الاسد فوراً ومن يريد ذلك بنهاية ولاية الحكومة، بعد إقرار الدستور وتنظيم انتخابات عامة. وبالنسبة لواشنطن وموسكو فإن مصير الأسد «مشكلة مؤجلة». لا وقت للبحث الآن فيها. الوقت للميدان الموحّد ضد الإرهاب. وموسكو صاحبة المبادرة المندفعة ديبلوماسياً وعسكرياً ترسل رسائل بمضامين ترضي جميع المتحاربين لدفعهم الى فيينا 2 و3 وغيرها، كأن تقول إنها لن تطلب من الأسد البقاء أو الرحيل.
الأكيد اليوم أن الأسد باقٍ. والأكيد أن مَن صمد في الحرب، لا بل احتفظ بالمبادرة العسكرية، قادر على تجاوز ما يُسمّى «الفترة الانتقالية». لم يعد الرئيس السوري خطراً وشيكاً، وكذلك ايران لم تعد دولة «مارقة». المارق اليوم هو «داعش» وأخواته. والخطر الداهم قابع في عواصم عربية وإسلامية ترعى الأصولية عقائدياً، وتغذيها مالياً. الحرب على الارهاب تحولت عقيدة عالمية موحدة. ليس تفصيلا التنسيق العسكري فوق سماءي العراق وسوريا. من كان ليتخيل للحظة ان تنخرط الطائرات الروسية والأميركة في تنسيق عسكري خلال العمليات ضد «داعش»، أو أن يرسل «البنتاغون» خبراء عسكريين الى شمال سوريا لتقديم خبراتهم العسكرية وتوجيه رسالة واضحة الى كل من يهمه الأمر من أتراك وغيرهم، تفيد أن أقليات سوريا ليست متروكة وحدها، خصوصاً الأقلية الكردية، وأن ما تمّ التوافق عليه في فيينا حول «مدنية الدولة السورية ووحدة أراضيها» ليس حبراً على ورق، بل حاجة للسلم والاستقرار الاقليمي والدولي.
المسار السياسي والعسكري الجديد، من الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية، الى ساحل المتوسط وطول الحدود السورية مع تركيا والعراق والأردن، يُعيد بشار الأسد إلى موقع الرجل القوي في الإقليم، خصوصاً مع احتساب الميزان العسكري المتصاعد تعبوياً ونوعياً لـ «حزب الله». طبيب العيون الشاب غير المجرّب سياسياً وعسكرياً اجتاز اختبارات نارية، وأرسى توازناً عسكرياً في مواجهة إسرائيل والأصوليات لمصلحة سوريا والعرب، وفي ظروف أقسى بكثير من ظروف حافظ الأسد الذي خاض حرب تشرين بدعم عربي كامل. ليس غريباً أن يُطلق على بشار الاسد بعد اليوم لقب «الأسد الأكبر».
-------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 5-11-2015.