كان للخبير العسكري الأسترالي ديفيد كيلكولين دور «فكري» مركزي في بناء «الصحوات» في العام 2005، بهدف محاربة النفوذ الايراني، وقد كتب في حينها دراسة مهمة حول «تشريح العشائر في العراق». وهو اليوم يعتقد أن القصف الجوي الأميركي يمثل العطب الأساس المودي إلى الفشل. علماً أن جدول الغارات الجوية الذي رسمه مثير حقاً. فالضربات الجوية عنده مفيدة جداً عند زيادة كثافتها كماً ونوعاً.
بمعنى آخر، فإن الخطأ يكمن في معاملة «داعش» على أساس أنها قوة حرب عصابات غير تقليدية، وهو ما أدى، وما زال، إلى الفشل في قتالها وحصد نتائج جيدة، لأن «داعش» بعد تحولها خلال سنتين، أصبحت قوة تقليدية بامتياز. وهذه تعد نقطة ضعفها في تطورها السريع ـ أو قل في تدهورها ـ من قوة لا تقليدية تتبع أساليب الحروب الرابعة اللامتناظرة، إلى تنظيم عسكري يستخدم التكتيكات العسكرية التقليدية. إذ حتى عملياتها «الانتحارية» حالياً لا يمكن اعتبارها جهاداً «دينياً» ولا هي غير تقليدية بالمعنى العسكري، لأن معظم الجيوش الجرارة الكبيرة استخدمتها في عملياتها العسكرية الضخمة في الحروب المعاصرة.
لقد كان معدل القصف الأميركي وقصف حلفائه في العراق وسوريا، الذي استهدف البنية «العسكرية» الثابتة «لداعش» وخطوطها المتنقلة من أيلول 2014 إلى حزيران 2015، 12 غارة يومياً، بينما كان معدل القصف في ليبيا 48 غارة يومياً. وفي افغانستان بعد الغزو في 2001 وصل إلى 110 غارات. أما في كوسوفو (1999)، فكان عدد الغارات 250. لكن الإعلام هو الذي يوهم الناس أن «داعش» ستخر ساجدة جراء الطلعات النسائية الخليجية وإمكانياتها الاستثنائية. إن السؤال الآن يتكرر: من هي القوة التي تحقق الموقف الفاصل في اتخاذ القرار بالانخراط الكلي في الأزمة أو بالخروج منها؟
أميركا والإسلام المسلح
بيد أن غبار المعارك الأميركية المزيّفة لم يخفِ نهائيا نياتها الحقيقية. فهي في تعاملها السياسي المباشر لا تجد فروقات هائلة بين القوى الأساسية «الحية» في حكومات أو مجتمعات أو أحزاب دول المنطقة، وتحديدا في التيارات الثلاثة: القوى القومية السابقة والآنية، والقوى الليبرالية التي تحاول أن تطرح، من دون جدوى، موقفاً مستقلا عن «السوق» الأميركية في التحريض والتعبئة، والإسلام السياسي بأشكاله ومحتوياته المختلفة، والذي هو، باستثناء الذي يحارب إسرائيل بقوة وعناد من نمط «حزب الله»، احتياطي استراتيجي للمصالح الأميركية في المنطقة. فأميركا، الامبريالية العالمية، في عرف سمير أمين، تبقي هذه «الحدائد الثلاثة» في النار لأنها عمليا تركز وتعمل على استخدام الصراعات فيما بينها من أجل كامل الاستفادة. ومن ثم نجد أنها إزاء أزمة الإصلاحات في العراق، تعاملت مع حكومة العبادي على أنها موجودة من أجل تزييت عجلاتها في اتجاه التغيير الذي تصبو إليه. وهي غير موجودة من أجل ترتيب أوراقها في داخل بيوتات المكونات، وتحديداً في الأجنحة المؤيدة لها بلا شروط في «التسنن السياسي» السلمي أو المسلح.
هكذا، فقد رعت مؤخرا أموراً عدة في الوقت نفسه: أولاً، مؤتمر الدوحة أي «سنة المعارضة» وعمادها «البعث ـ عزة الدوري»، بعد انسحاب بعض القوى ومنها «هيئة العلماء المسلمين». ثانياً، تشكيل قوات للعشائر المسلحة في الأنبار ـ «الجيش العباسي» ـ وإبعاد «الحشد الشعبي» إلى الحبانية بالتعاون مع حكومة العبادي. ثالثاً، التوصل الى اتفاق، يقال إنه مكتوب، مع القيادات العشائرية وبعض الإداريين في محافظة الأنبار، مع قسم من نواب «سنة المعارضة» في البرلمان. ويتلخص الاتفاق في أن تساعد أميركا هؤلاء على إجلاء «داعش» من مناطقهم وإعادة إعمارها وتعويضهم مادياً عن الخسائر وحمايتهم عسكريا، وخاصة من الجو، لقاء أمرين: الأول بناء قواعد عسكرية ثابتة في المنطقة، والثاني إبرام عقود مع شركات عالمية تابعة لها لاستثمار الغاز في حقول «عكاز»، على أساس أن تكون حصة الأنبار 51 في المئة وحصة الشركات 49 في المئة، والله يحب المحسنين. علماً أن هناك مفاوضات جادة جارية بين الشركات الأميركية، وفي المقدمة «أكسون»، مع وزارة النفط ـ عادل عبد المهدي، لمد أنبوب من البصرة إلى ميناء العقبة في الأردن عبر الأنبار، وذلك لتصدير النفط الجنوبي بعيداً عن مرابض «مدافع نافارون» الايرانية!
إنها عودة إلى مشروع «الأنبوب العملاق» الذي كان السبب الرئيسي وراء غزو العراق واحتلاله في العام 2003، مع إضافة أن الحكومة المحلية في محافظة البصرة تابعة «للمجلس الأعلى ـ عمار الحكيم»، وهو حزب إسلامي مسند من قبل ايران والكويت معاً. وهنا، ليس المهم موافقة الحكومة المركزية أو اعتراضاتها. فهي عمليا حكومة ضعيفة تمتلئ «بالأزمات»، وهي نتاج تلاقح «دولة» بيروقراطية أبيدت من قبل الاحتلال، كانت تشكو دائماً من الأزمة في بنيتها السياسية، مع حكومات وكالة احتلالية هشّة وفاسدة وعاجزة عن الحفاظ على تماسكها الداخلي، علماً أنها في سلوكها مفرطة في سيادتها الوطنية وعابثة في استقلال ووحدة أراضيها. أما «داعش» فهي باقية.. وتتمدد!
التردد العشوائي والانخراط المنظم
إن الانخراط الروسي «المنظم»، وبالتساوق مع التردد الأميركي «العشوائي»، يمثلان صيغة هيغلية فريدة، وهي في نظر أهم المحللين الأميركيين، من النمط الاستعماري المعتدل وغيرهم في اوروبا أيضاً، تعني في التحليل الأخير أن منع الأسوأ هو أفضل من انتظار الأفضل. وهذا عملياً نموذج «للتدخل الصحيح لأسباب خطأ».
إن تصرفات الإدارة الأميركية الرجراجة، استجلبت تدخلاً روسياً، علماً أن الانخراط الروسي قد وحّد فعلياً، على مستوى خطوط الإمداد العسكري والتنسيق السياسي، «المعضلة» في سوراقيا وامتداداتها في الإقليم. وكانت البداية اللامعة في تشكيل «المركز الأمني المشترك» والموحد في العراق، والذي يضم العراق وسوريا وروسيا وايران. وقد طلبت روسيا من أميركا الانضمام إلى المكتب فرفضت أميركا ذلك. وحاول العبادي تسويق موافقته على المكتب، برغم أن ذلك قد تم من دون الرجوع إليه، على أساس أنه جزء من التفاهم والعمل المشترك مع «التحالف الدولي» لمحاربة «داعش».
وقد فضح هذه الارتباكات البيان المهم الذي أصدره «مكتب العمليات المشتركة» العسكرية، حين أكد أن هذا «المركز الأمني المشترك» كان موجوداً قبل الانخراط الروسي العلني، وأن العراق كان عضواً مشاركاً بشكل غير رسمي، وأصبح الآن عضواً رسمياً. كل ذلك يجري وصخرة الفشل «تتدحرج» على إيقاع العمل الأميركي اللامجدي والمزوِّر نفسه في محاربة «داعش».
الأمن الروسي وأمن الشرق الأوسط
هنا سارعت القيادة الروسية، التي تعتنق فكرة «من لا يحن إلى الاتحاد السوفياتي إنسان بلا قلب، ومن يحلم بعودته إنسان بلا عقل»، إلى الانخراط المتدرج المنظم. وكانت قد غطت عملياتها الراهنة بقذائف تصريحات سياسية قاسية وواضحة ومتنوعة، بأن الفوضى السائدة الآن في المنطقة سببها الأساسي هو التدخلات «المسلحة» للغرب، وأميركا في المقدمة، في شؤون المنطقة، واعتماد ديبلوماسية الزوارق المسلحة في «تغيير الأنظمة» معياراً رئيسياً في العلاقات السياسية الدولية.
وقد أدلى العديد من قادة روسيا وكتب الكثير من محلليها بأن الغرب يدرك بجلاء، وهو ينكر ذلك بذرائعية مقيتة، أن الأمن الروسي هو جزء من أمن الشرق الأوسط، كما أن أمن الشرق الأوسط هو جزء من الأمن الروسي. بل إن «بوتين» نفسه كرر في خطابه في الأمم المتحدة بأن موجات الهجرة الحالية الى اوروبا مرجعها الفعلي التدخلات العسكرية المذكورة ورعاية «داعش» وتقوية المنظمات الاسلامية المسلحة الارهابية تحت ذريعة تقوية الاتجاهات «المعتدلة» أمام الارهاب المعروف. بل إنه أطلق كلاماً صريحاً حول مسألة استعمال «المصطلحات»، في معرض اشارته الى محتوى الصراعات وآفاق تطورها وكيفية العثور على المعالجات الصحيحة لمضاعفاتها. فالأميركيون هم الذين أطلقوا فكرة أن من يسيطر على «المصطلحات» هو الذي يسيطر على مجرى الصراع.
إن روسيا الآن تسعى إلى احتواء «الإسلام المسلح» وزحفه المنتظر والمخطط له إلى قلب الصين وإلى أراضيها. إنها عمليا حرب استباقية مكشوفة، وغاياتها باعتراف وزارة الخارجية الأميركية «واضحة المعالم». ويؤكد الخبير العسكري المخضرم ليونيد ايفاشوف أنه لا يجب الاهتمام كثيراً بالموقف الاميركي. فالجميع يدرك أن واشنطن هي التي وقفت وراء هذه الطبخة ضد العراق وسوريا، ومن المستبعد أن تساهم في بناء «المركز الأمني» الموحد لمحاربة «داعش».
لعبة الكراسي الموسيقية الدامية
في مقالته المنصفة حول الموجات الجديدة للهجرة من الشر الأوسط إلى اوروبا، أكد ثاليف دين»، مراسل خدمة الصحافة الدولية، بالأرقام والبراهين الراسخة، على أن التدخلات العسكرية في العراق وسوريا هي السبب الرئيسي، وأن مبدأ تغيير الأنظمة هو حجر الرحى الفكري في هذه المجازر المتواصلة، وأن الأمور وصلت الى حالة من الفضيحة السوداء حين صرح مسؤول أوروبي كبير، تم حذف اسمه من معظم أجهزة الاعلام: «لماذا علينا أن نستقبل لاجئين ونحن لم نتدخل عسكرياً في بلدانهم؟». لكن الأستاذ والمؤرخ الأميركي غريغ غاردين، وصاحب كتاب «هنري كيسنجر العرب»، يقول إن التدخل العسكري هو النتيجة، والسبب هو بناء الوحش الذي تتصور أميركا دائماً من خلال خلقه أنها قادرة على استثماره في الحروب مع الآخرين.
ومن الجدير ذكره أن بوتين، في كلمته في الأمم المتحدة، قد شخص ذلك بقوله: « أنتم تتعاملون مع رجال قساة لكنهم ليسوا جهلة، ومن السابق لأوانه معرفة من سيستغل من!».
هل يمكن، يا ترى، العثور على «الحل الأسهل» للمعضلات المعقدة؟ ألم يقل إبن خلدون العظيم «إن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد»؟ أليس المجتمع الإنساني هو صدى للطبيعة؟ أم أن المنطقة هي القاعة مترامية الأطراف، حيث تدور لعبة الكراسي الموسيقية الدامية؟
------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 26-10-2015.