لا يمكن لموسكو أن تفكر في سوريا خارج إطار العقل الاستراتيجي الروسي في الحكم والمعارضة.
ما بين موسكو ودمشق مروحة من نقاط تقاطع الاستراتيجي والسياسي والثقافي، تتجاوز القطع العسكرية الروسية المتمركزة في طرطوس واللاذقية، وتفوق الدعم الجوي الذي تؤمنه مقاتلات فلاديمير بوتين للجيش السوري. ذلك أنّ وقوف العقل التحليلي السياسي العربي عند مقولة إنّ روسيا تدافع عن مصالحها وحلفائها في سوريا بكلّ مقومات القوّة والنفوذ لديها، لا يحفر عميقا في البنية الذهنية للفاعل الروسي، ولا يؤصل لتفسير حقيقي منسحب على سياقات الماضي والحاضر والمستقبل أيضا.
كان لسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي الأثر العميق في الذهنيّة الروسية القائمة على “قوّة الجذب” صلب النظرية الاشتراكية وأهدافها في العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والمبنية على جاذبية قوة التاريخ القيصري الأثيل، لا سيّما وأنّ نهاية الاتحاد السوفياتي كانت تعني من جملة دلالاتها أفول القوّة الناعمة وانحسار النادي السوفياتي في حدوده الدنيا القائمة على القومية دون الأممية التي يرنو إليها التفكير الشيوعي الاشتراكيّ.
وفي وقت كانت فيه الليبرالية، كنظرية في الحكم والاقتصاد، تقضم دول الاتحاد السوفياتي السابق على وقع القوة الناعمة حينا، أفلام هوليوود وخاصة منها سلسلة الملاكم روكي، وعلى صخرة القوّة المادية أحيانا أخرى، يوغسلافيا نموذجا، كانت سوريا في عهد حافظ الأسد تمثّل آخر المؤمنين بالنظرية الاشتراكية وتشكلّ المثال السياسي عن مركزية الحكم والقرار.
ورغم دخول سوريا في البراديغم الليبرالي الحذر مع بشار الأسد إلا أنّ ارتسامات الدولة الراعية للرأسمال المحلي كانت جلية في المسلكية الاقتصادية والاجتماعية للنظام السوري، وهو ما مثّل لموسكو المترهلة حينها آخر معقل لها في ميدان “القوّة الناعمة” لا سيّما وأنّ الحالة السورية كانت تشير إلى إمكانية التحوّل من الفضاء الاشتراكي، إلى الاشتراكي الليبرالي، ومنه إلى الليبرالية الحذرة دون انهيار أو تفكك.
بقي النموذج السوري، ومعه العراقي في بعض الحالات، منحوتا في الذهن السياسي الروسي كـ”حديقة خلفية” و”عينة تمثيلية” للتحوّل الاقتصادي دون انخراط في الليبرالية العالمية وفي اقتصاد السوق الكوني بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وكامتداد لذات التماثل بين “الأصل والصورة” و”العينة والمجتمع الأمّ”، تفكّر موسكو في المستقبل السوري وفق المنظور الروسي، لا من خلال الحفاظ على مصالحها السياسية والاستراتيجية والعسكرية والثقافية فقط، ولكن أيضا من خلال تأمين “استمرار” القوّة الناعمة الروسية في سوريا، وضخّ دماء الانتشار والتمدّد في البراديغم الروسي في الحكم والمعارضة.
الشاهد هنا أنّ لدى موسكو مقاربة في الحكم والمعارضة مطبقة حاليا في الكرملين تقوم على 5 أسس وهي: حكم رئاسي قويّ، برلمان تابع لتوجهات الرئيس مع مشاركة بعض وجوه المعارضة، معارضة سياسية وإعلامية ضعيفة، مجتمع مدني مخترق أو مختلق، طغمة سياسية وعسكرية ومالية نافذة في الداخل والخارج تروّج للرئيس وتدعم مشاريعه وتؤمّن العلاقات الاستراتيجية مع دول الجوار أولا والإقليم ثانيا.
وفق هذا المنظور تقارب موسكو مستقبل سوريا السياسي، ووفق هذا التفكير تتمسك ببشار الأسد، ذلك أنّ استراتيجيتها وتفكيرها وتمثلها لشكل نظام الحكم تقتضي وجود الأسد في القصر الجمهوريّ بدمشق، وليس أنّ شرعية الأسد الانتخابية أو السياسية، وفق المنطوق السوري الرسمي، هي التي تفرض على موسكو احترام بقائه في الحكم. وطالما أنّ موسكو لم تجد شخصيات سياسية في الفضاء السوري سواء في الحكم أو المعارضة قادرة على تجسيد نظريتها في الحكم، فإنّ الدعم الروسي للأسد لن يرفع ولن يعلّق.
اللافت في هذا السياق أنّ “الخماسية الروسية” المذكورة آنفا متكرسة في مصر اليوم التي تلقى دعما من الكرملين وهي متجسمة بقوّة في الجزائر المؤيدة من روسيا سياسة واقتصادا، وهي في سياق التبلور في الشرق الليبي بقيادة القائد العسكري خليفة حفتر، وهي في طور التجسيد في تركيا التي تتحوّل بسرعة من الحكم التشاركي البرلماني، إلى الحكم الأحادي الرئاسي بقيادة رجب طيب أردوغان، ولولا التقسيم الطائفي للحكم في العراق لوجدت طريقها التنظيمي في بغداد.
وهي مقدمات تشير إلى تعميم عربي للنموذج الروسي في الحكم، سيّما وأنّه يستجيب بشكل واضح لنرجسية الحاكم العربي ولنفور الشعوب في المشاركة السياسية ولانزياح المعارضة والمجتمع المدني العربي نحو “الحروب الداخلية” حينا، ولتسويق نفسها خارجيا أحيانا أخرى.
لا يمكن لموسكو أن تفكر في سوريا خارج إطار العقل الاستراتيجي الروسي في الحكم والمعارضة، ولا يمكن أن تُطالبَ موسكو بغير التأصيل لنفسها وللمنطقة العربية جميعا وفق ميكانيزماتها التحليلية والتفكيرية.
كيف سيكون مستقبل المنطقة، سؤال يجيب عن جزئه الكرملين، والجزء الآخر البيت الأبيض والثالث طهران، والرابع أنقرة، والخامس تل أبيب، ولن تجيب عنه الشعوب العربية الثائرة في ميادين التحرك ناهيك عن أنظمتها الساقطة حقيقة أو رمزا أو عقدا اجتماعيا.
------------------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 26-10-2015.