في مقالة سابقة هنا (الحياة، الأحد 3 تشرين الثاني / نوفمبر، 2013) تأكد يقين أن الدين شيء، والعلم شيء آخر يختلف عنه تماماً. هذا اليقين معروف لا جديد فيه، لكن الإيمان الديني لدى البعض، وهم كثر، يقف حائلاً أمام عملية الفصل والتمييز هذه، خوفاً من أنها تقلل من أهمية وصدقية الدين، وبالتالي قد تمثل انتهاكا لقدسيته، وانتقاصاً من علويته المعرفية. ولو أخذ الأمر من منطلقه المنهجي البحت، وليس من منطلق عقدي إيماني مسبق، لتبين أن تمييز الدين عن العلم ليس فيه شيء من ذلك أبداً، بل إنه ضرورة لاستقامة الحياة، وأقرب إلى الانسجام مع ضروراتها ومتطلباتها، وبالتالي يزيد من قدرة التعامل مع تعقيداتها وتناقضاتها. وهو ما ينسجم في نهاية التحليل مع عمارة الأرض التي جعلها الدين نفسه المقصد الثاني من حيث الأهمية لمقصد العبادة.
هنا تبرز ملاحظة لافتة وذات صلة، وهي أن التراجع الحضاري للعرب والمسلمين يمتد الآن لأكثر من ثمانية قرون، أي منذ بداية مؤشرات أفول العصر العباسي الثاني في القرن 7هـ/13م. وليس في الأفق ما يشير إلى أن هذا التراجع وصل إلى مشارف نهايته بعد. الملاحظة الثانية هي التلازم الزمني بين هذا التراجع من ناحية، وبين تفشي الأساطير والأوهام والخرافات، مما ليس له علاقة بالضرورة لا بحقيقة الدين ومقاصده، ولا بطبيعة العلم ومتطلباته. والسؤال في هذا السياق: هل هناك صلة بين حال التراجع هذه وتفشي ظاهرة الخلط التي تهيمن على الثقافة العربية: خلط الدين بالعلم، والدولة بالدين، والدين بالسياسة، والقبيلة بالدين، والفكر الديني بالدين... الخ؟
الأسطورة حيناً، وسوء الفهم حيناً آخر، والوهم حيناً ثالثاً، والمصلحة حيناً رابعاً، كل تلك العوامل، مجتمعة أو متفرقة، هي المصدر الأول والأهم لظاهرة الخلط هذه. والواضح أن هذا الخلط عطل ملكة التفكير والنقد والتحليل والتمييز، وبالتالي الفصل والتقسيم والإبداع، مما تقتضيه طبيعة الحياة وسيرورتها، وتفرضه حركة التاريخ وتحولاتها. خذ مثلاً خلط الدين بالفكر الديني، إما لجهل وعدم قدرة على الإطلاع وتجديد مصادر المعرفة، وإما لغرض سياسي ظاهر باطن. ثم هناك خلط الدين بالنسب وتوهم أن النسب يتصل ويتكامل مع الدين، أو أن أحدهما شرط لاكتمال الآخر، خصوصاً على المستوى السياسي. ولعل أبرز مثال لهذا ما حصل للنسب القرشي الذي أصبح حتى عهد قريب شرطاً من شروط استحقاق تولي الخلافة الإسلامية. وترتب على ذلك ارتباط القرشية بالخلافة حتى سقوط الدولة العباسية. المثال الآخر، والمتفرع من ذلك ما حصل لمفهوم «آل البيت». وهو في أصله مفهوم ديني، كما في قول الله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}، (33، س. الأحزاب). والمعنى هنا الطهارة الدينية. لكنها تحولت مع الوقت إلى أساس لحق سياسي حصري كما في مفهوم الإمامة، وعصمة الإمام كما في المذهب الشيعي. بعبارة أخرى، أمست الطهارة الدينية أساساً لحق إلهي في الحكم مقصوراً على آل البيت دون سواهم. وهذا لا يعدو عن كونه مجرد استنتاج بدأ في التبلور في القرن 2هـ/8م، أو زمن الأمويين. وهو استنتاج يكشف عن مدى قدرة الفكر الديني بشكل عام على توظيف الدين (النص الديني، وفي حال الإسلام القرآن والسنة) لأهداف سياسية ليس لها سند ديني واضح ومباشر.
اللافت في هذا الإطار من خلط المفاهيم أنه في الوقت الذي يجتهد أصحاب الخطاب في مماهاة الدين بالعلم، نجد أنهم يفصلون فصلاً تاماً بين الدين والفلسفة، ويحرمون الاشتغال بالفلسفة من منطلق فكري ديني، وليس من نص ديني مباشر. ومن المعروف أن الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) هو أشهر، وربما أول من قال بذلك. وجه الغرابة في الموقفين، والتناقض بينهما، هو أن الفلسفة والعلم يشتركان في شيء واحد وهو أنهما يصدران عن سلطة العقل وحسب، وليس عن سلطة الوحي أو المؤسسة الدينية، أو سلطة التقاليد المتوارثة. والدين، ومعه الفكر الديني، لا يشترك مع الفلسفة أو العلم في هذا المنطلق المعرفي. كيف يجوز، والحال كذلك، مماهاة الدين بالعلم، ثم رفض هذه المماهاة في حال الفلسفة؟
للفيلسوف والفقيه الشهير ابن رشد رأي معروف في هذه المسألة سأعود إليه لاحقاً. لكن قبل ذلك أفضل عرض رأي أحد أشهر فلاسفة القرن الـ20 في موضوع العلاقة بين الدين والعلم والفلسفة. وأعني بذلك الفيلسوف الإنكليزي اللامع برتراند راسل. يعرف راسل الفلسفة هكذا «الفلسفة كما أفهمها هي شيء يقع في المنتصف بين اللاهوت (الدين) والعلم. هي مثل اللاهوت من حيث أنها تتكون من أفكار وتحليلات تأملية، أو تخمينات (speculations) لمواضيع لا تتوافر عنها معلومات دقيقة، أو يمكن التأكد من صحتها. لكن الفلسفة مثل العلم من حيث أنها تستند إلى العقل الإنساني، وليس إلى السلطة، سواء في ذلك سلطة التقاليد أو سلطة الوحي. كل المعارف الدقيقة، كما أرى، تنتمي إلى العلم. وكل أشكال «الدوغما» (Dogma)، أو المعتقدات التي تتجاوز حدود المعرفة الدقيقة تنتمي إلى اللاهوت. فيما بين اللاهوت والعلم هناك متاهة مفتوحة للتناول من الجانبين. هذه المتاهة هي الفلسفة. كل الأسئلة التي تستهوي أصحاب الذهنيات التي تميل إلى التحليل التأملي (speculative minds) هي تلك الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، وإجابة اللاهوت الوثوقية عنها لم تعد مقنعة كما كانت قبل قرون مضت (كتب هذا الكلام في منتصف أربعينات القرن الماضي). من هذه الأسئلة: هل العالم منقسم إلى عقل ومادة؟ وإذا كان كذلك، فما هو العقل؟ وما هي المادة؟ هل يخضع العقل للمادة؟ أم أنه يتوافر على قدرات مستقلة بذاته؟ هل للكون أية وحدة أو هدف؟ هل هو يتطور في اتجاه هدف ما؟ هل هناك فعلاً قوانين للطبيعة؟ أم أننا نعتقد ذلك بسبب من ميلنا الفطري نحو النظام؟..» (راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، بالإنجليزي، ص13 من المقدمة).
من الواضح أن راسل يقول هنا بضرورة الفلسفة لسد الفجوة المعرفية التي نشأت من عدم قدرة العلم على التعاطي مع هذا النوع من الأسئلة، وعدم قدرة اللاهوت على تقديم إجابات مقنعة عنها، كما يقول. مؤدى كلام راسل واضح، وهو أن المنهج الوحيد المتوافر حالياً للتعاطي مع هذا النوع من الأسئلة التأملية هو المنهج الفلسفي. أي أنه يستبعد اللاهوت، أو المنهج الديني، ولا يعتبره ذا صلة بالفلسفة. لابن رشد قبله رأي آخر. فما هو؟ وما هي دلالة المقارنة بين رأي إسلامي من القرن 6هـ/12م مع آخر غربي من القرن 14هـ/20م؟
------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 11-10-2015.