هل يغير الاتفاق النووي من سياسة مصر الخارجية تجاه الجمهورية الإسلامية؟، وهل يؤدي إلي تقارب مصري - إيراني؟، وما سيناريوهات العلاقة بين الدولتين في ضوء الاتفاق؟. لقد طرحت هذه الأسئلة في ملف العلاقات المصرية - الإيرانية منذ سنوات. ومجددا، عاود الاتفاق النووي طرحها، فما حدود التغيير في السياسة المصرية نحو إيران بعد الاتفاق؟.
بداية، فإن علاقات مصر بدول مجلس التعاون الخليجي ليست مجالا للمناورة أو التكتيكات، لأنها بالحسابات الواقعية تتقدم علي أي مصالح يمكن لمصر أن تجنيها من أي علاقات جديدة مع إيران. ومن الخطأ وضع علاقات مصر بإيران في كفة، وعلاقاتها بدول مجلس التعاون في كفة أخري في مقابلة عدمية تبدو كأنها لغز بلا حل. كما أنه من المهم أيضا الإقرار بأن مداخل إيران وحساباتها لبناء علاقات مع مصر تختلف عن مداخل مصر وحساباتها في بناء علاقات مع إيران. وإذا كان من الطبيعي أن تسعي إيران إلي بناء علاقات مع مصر بهدف فتح المدخل والباب الأساسي لها إلي العالم العربي، فمن غير الطبيعي أن تفرط مصر في مجالها ودائرة نفوذها الاستراتيجي في تركيبة هذا النظام، وتبني علاقات مع إيران تكون علي حساب موقعها المتفرد. لذلك، فإن حسابات مصر تختلف عن حسابات دول الخليج، وهو ما يدحض "الحجة الخليجية" التي يروجها بعض الباحثين والمفكرين المصريين في تسويق العلاقة المصرية مع إيران (علي أساس أن دول الخليج العربية لها علاقات دبلوماسية واقتصادية مع إيران).
ومن المهم أيضا الإقرار بأنه بحسابات السياسة، ليس من مصلحة دول الخليج العربية أو مصر استمرار القطيعة مع إيران. وفي ظل التسويات الإقليمية الجارية، والمتمثلة في: اعتراف السعودية بأنه ليس هناك سوي الحل السلمي للأزمة اليمنية، ومع المباحثات السعودية - السورية في جدة بشأن سوريا، والدعوة الإيرانية لبناء حلف إقليمي يواجه الطائفية والتطرف، ومع "إعلان القاهرة" المصري - السعودي، فإن هناك فرصة لخروج المنطقة من نفق مظلم، الأمر الذي يتيح إعادة التفكير في كل شيء بصور جديدة.
وليس خافيا أن مستقبل العلاقات المصرية - الإيرانية موقوف بالأساس ومنذ سنوات علي قرار مصر، وليس إيران. فلم تخف إيران رغبتها في استعادة العلاقات، بينما لا يزال الموقف المصري غامضا، وتحكمه حسابات معقدة. فبعيدا عن بعض الأصوات المتشددة في إيران، فإن التيار الرئيسي مع استعادة العلاقات. ولقد أكد ذلك الزيارة التي قام بها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد للقاهرة في فبراير 2013، وقرار إيران بإلغاء تأشيرات الدخول إلي أراضيها لمواطني سبع دول، من بينها مصر في أغسطس .2015 وإذا كان بإمكان صانع القرار في الجمهورية الإسلامية تبني قرار استراتيجي بعودة العلاقات دون ضغوط من قوي داخلية متعارضة، فإن جهاز صنع القرار في مصر يتعرض لضغوط من أطراف مختلفة تنتهي به بشكل مستمر إلي موقف اللاقرار بخصوص العلاقة مع إيران. ولقد أصبحت التركة الخاصة بثقل اتخاذ القرار، فيما يتعلق باستئناف العلاقة مع إيران، هي نفسها من عراقيل تبني القرار المصري.
أولا- النظرة للاتفاق:
يصعب العثور علي موقف مصري رسمي متكامل فيما يتعلق بالاتفاق النووي، وذلك تواصلا مع موقف مصر الغامض منذ البداية فيما يتعلق بالبرنامج الإيراني. والأساس أن مصر لا تري أن الاتفاق يمثل تهديدا لها، أو أن النووي الإيراني برمته يشكل خطرا عليها، ويأتي ذلك في ضوء الأولوية المصرية للتكافؤ مع إسرائيل. وإلي حد كبير، نظرت مصر إلي التسلح الإيراني من زاوية "عدو العدو"، فضلا عن أنه ليس لإيران في الانطباعات الشعبية المصرية مدلولات العداء المذهبي والسياسي نفسها التي بينها وبين دول الخليج. وعلي الأرجح أن مصر تنظر للاتفاق من زاوية المكاسب، بحسبان إيران ظهيرا للعالم العربي، وليس من زاوية المخاطر التي تراها دول الخليج، ثقة بأن إيران لن تهدد دول الخليج بالنووي تحت أية ظروف. وهي رؤية مثالية متأثرة بالفكرة العامة عن العالم الإسلامي. كما تري القاهرة أن الاتفاق يؤسس لقواعد جديدة قد تسمح لدول المنطقة بتطوير برامجها النووية أسوة بإيران.
ولم يكن مستغربا أن بعض وجهات النظر الفكرية المصرية عبرت عن الإعجاب بنموذج التحدي الإيراني، وبالنموذج التفاوضي للجمهورية الإسلامية، ودعا البعض الدولة المصرية للاستفادة بتجربة إيران. بل دعا البعض وزارة الخارجية المصرية لإعداد صيغة جديدة للعلاقة مع طهران بما يتفق ومصالحنا العليا في الإقليم(1). وتعددت الكتابات المصرية التي وجهت النقد اللاذع للدولة علي تراجع وضعيتها بسبب مسار العلاقة مع الغرب منذ عام 1979، في الوقت الذي تصاعدت فيه قدرات التحدي الإيرانية باتباعها مسار المواجهة منذ الثورة الإسلامية في السنة نفسها(2). وعبر البعض عن خشيته علي إيران من أن تمر بعد الاتفاق النووي بتجربة مصر، فيكون استدراجها إلي الاتفاق بداية للعد التنازلي لـ "تخريبها" من قبل الغرب(3). وأدان البعض الآخر استمرار المواجهة السنية - الشيعية، واستمرار توظيف جماعات الإسلام السياسي، بحسبانها أساليب كانت تصلح للمواجهة قبل قرون وليس اليوم(4). ودعا آخرون لاستثمار مواقف مصر في لعب دور الوسيط بين الحوثيين وإيران من جانب، ودول الخليج، خصوصا السعودية، من جانب آخر(5). ولم تكن كافة وجهات النظر هذه سوي توجهات فكرية تعكس الانطباعات الشعبية، والوجدان المصري نحو إيران، وتكشف المستور عنه في وجهة النظر الرسمية. وجميعها تصب في خانة الإعجاب بإيران، والخوف عليها. ويشير ذلك إلي استمرار ولع بعض المصريين بالحقبة الناصرية، ونظرة البعض لإيران بمنظور التحديات الكلية علي العالم الإسلامي.
وعلي الرغم من أن هناك قطاعا من النخبة الخليجية هو الآخر معجب بنموذج التحدي الإيراني، فإن ذلك القطاع ليس هو النافذ أو صانع القرار. وهو الأمر نفسه في مصر من زاوية أخري. فقرار التحول الاستراتيجي في السياسة المصرية لا تصنعه وجهات النظر سالفة الذكر، والتي تشير إلي طوائف من المصريين، يقيمون السياسات بمنظور مختلف. فمن الناحية الرسمية، لا تخضع عملية تغيير السياسة المصرية نحو إيران للكتابات الصحفية والسياسية، رغم أنها مؤثرة، وإنما للتقديرات المعقدة للدولة، وحسابات الأمن الداخلي، والتوافق السياسي والاجتماعي، وهي أمور كلها محل تباين في التقدير.
ثانيا- الصفقة الكبري:
يفرض علي مصر ضرورة إعادة فتح ملف علاقاتها مع إيران مستجدات ومتغيرات إقليمية أصبحت واضحة للعيان، حيث تتغير الرؤية الخليجية لإيران بعد الاتفاق النووي. وهناك اعتراف خليجي بأن إيران تتغير(6)، وهناك عملية "إعادة مراجعة" وتقييم خليجية للاتفاق النووي، تركز علي جوانبه الإيجابية. وعلي جانب إيران، فإنها، بعد الاتفاق، تعيد تقديم نفسها بشكل مختلف، وتريد مضاعفة الاستثمار في الاتفاق من خلال منهج جديد في إدارة علاقاتها بدول الإقليم. لقد طرحت مبادرتها المعدلة بشأن سوريا، والتي تتضمن تقليص التزامها السياسي والأيديولوجي إزاء الأسد. كما أكدت أن المرحلة التي أعقبت الاتفاق النووي تشكل فرصة مناسبة لتعزيز العلاقات مع دول الجوار، كما أكدت أنها تحرص علي إعادة علاقاتها مع جيرانها في المنطقة، لاسيما السعودية، وعلي تخطي الخلافات لتعود العلاقات إلي مسارها الطبيعي، كما خططت للدخول في محادثات مع دول مجلس التعاون الخليجي الست لمناقشة الخلافات الإقليمية في سبتمبر .2015
وتشهد منطقة الخليج بعد الاتفاق تفاعلات متسارعة تشير إلي دخولها مرحلة جديدة. وهناك ما يشبه الصفقة الكبري لتقليص الخلافات، وتوسيع دوائر التعاون والتفاهم: الأمريكي - الروسي، والروسي - السعودي، والخليجي - الأمريكي، والخليجي - الإيراني، وجميعها تستتبعها صفقات لإحداث انفراجة في ملفات الصراع علي جبهات سوريا، واليمن، والعراق، والوضع الإقليمي بالشرق الأوسط عامة. وفي اجتماع الدوحة بين وزير الخارجية الأمريكي ونظرائه الخليجيين في 3 أغسطس 2015، قدم الوزير تطمينات حظيت بارتياح نظرائه، وبددت مخاوفهم تجاه الاتفاق النووي، وتعهد بتقديم دولته الحماية الكاملة لدول الخليج من أي تهديدات إيرانية تهدد أمنها واستقرارها، وأبلغهم بنجاح بلاده في تطوير نظام صاروخي قادر علي ضرب المفاعل الايراني "آراك" وتدميره، ووعد بالعودة لفرض العقوبات الاقتصادية علي إيران في حالة ارتكابها مخالفة للاتفاق النووي، وتعهد بتسريع بيع وتسليم بعض الأسلحة المتقدمة التي جري الاتفاق عليها، ولم يتم تسليمها بعد.
عند هذه النقطة، تكون مصر قد أسهمت -بمنهجها المتمنع علي إيران- في إيصال علاقات إيران بدول مجلس التعاون إلي محطة جديدة. فخلال سنوات ذروة الخلاف الخليجي مع إيران، سعت الأخيرة إلي القفز علي دول الخليج العربية بتحفيز القاهرة علي بناء علاقات معها، عبر طرح مجموعة مغريات بالاستثمار بمليارات الدولارات، وبوعود بتدفق ملايين السائحين إلي مصر. لكن مصر لم تستجب لوجهة النظر الإيرانية إلا في لحظة حكم الإخوان الاستثنائية، ثم عادت مجددا لموقفها حتي قبل الإطاحة بهم من الحكم. وقد ساعد ذلك علي اقتراب إيران حاليا من دول الخليج من البوابة الخليجية، وليس بمدخل القفز والاستعلاء. ومن ثم، يجب ألا تكون علاقات دول الخليج العربية مع إيران حاليا علي حساب علاقات كلتيهما مع مصر، حيث إن إيران ستستفيد من الانفتاح الخليجي والدولي عليها في التفاوض مع مصر -حالة الرغبة في استئناف العلاقات- من وضعية لم تكن قائمة من قبل.
فبينما كانت إيران في السابق تراهن علي استدراج مصر إلي علاقات خاصة، قفزا علي الموقفين الخليجي والغربي، وتعزيزا لشروط اتفاقها النووي، وفي العلاقات مع دول الخليج، فإنها اليوم قد تسعي إلي تسخير التقدم المحرز في علاقاتها مع الاثنين لأجل حيازة أوراق ضاغطة عند فتح ملف العلاقات مع مصر. كما أنه إذا كانت بعض الملفات في السابق قد احتاجت طهران فيها لتعاون القاهرة، مثل ملفات سوريا، واليمن، والعراق، فإنها اليوم تتفاوض مباشرة مع الخليجيين. وإذا كانت في السابق قد احتاجت إلي استقطاب مصر إلي منهج راديكالي ضد الغرب، فإنها اليوم لا تحتاج إلي ذلك.
وأحد السيناريوهات، بعد الاتفاق، أن تسعي إيران إلي التصعيد مع مصر، علي خلفية تباين المواقف بشأن أمن الخليج، واعتراض إيران علي تكثيف العلاقات العسكرية والأمنية المصرية. ولقد تعززت علي مدي السنوات الخمس الماضية ملامح تحالف استراتيجي بين السعودية، ومصر، والإمارات. وهذه الحالة سوف تجعل مصر موجودة بشكل مستمر في علاقات دول الخليج بإيران، علي الأقل خلال الفترة اللازمة لاستقرار العلاقات الخليجية - الإيرانية. ومن المرجح أن يلعب هذا التحالف دورا مهما في النظام الإقليمي الذي يعاد تشكيله. هنا، قد تسعي إيران إلي تجديد موقفها من جماعة الإخوان، أو انتقاد الأوضاع الداخلية الخاصة بالشيعة. وبعدما تنخرط إيران في علاقات مع دول الخليج، ستكون قد انخرطت مصالحها ودوائر تحركها الاستراتيجية أكثر مع أهم منطقة للأمن القومي المصري وللمصالح المصرية، وهو ما سيجعل هناك موضوعات تأثير ومناطق تماس استراتيجي بين الدولتين. وإذا لم يكن الالتزام القومي المصري إزاء دول الخليج العربية بمستوي الندية نفسه، والقدرة، والتكافؤ الاستراتيجي مع إيران، فإن مصر سوف تخسر جزءا من مصداقيتها لدي دول الخليج.
ثالثا - الحاجة للمكاشفة:
لم تعد سياسة القطيعة التامة أو الانفتاح الكامل هي السياسة الأوفق للتعامل المصري مع الجمهورية الإيرانية، بعد الاتفاق النووي. وعلي صانع القرار في مصر، خلال الفترة المقبلة، أن يزن تقديراته بدقة. فمصر يمكنها أن تكون جسر تواصل وتأمين بين دول الخليج العربية وإيران، ليس بمعني أن تكون وسيطا أو محايدا، فانحياز مصر للأمن العربي ولأمن الخليج ليس محل مفاضلة أو موازنة بأهداف أخري.
وتدعو حالة العلاقات المصرية - الإيرانية إلي الاستغراب، ويصعب استمرارها علي الحال ذاتها، ليس فقط لحجم إيران، وإنما بالأساس لأهمية دور مصر في أمن الخليج، ولمعرفة حدود دورها، حال تعرضه للتهديد. كما أن التغييرات الخليجية نحو إيران هي الأخري قادمة لا محالة. ومن ثم، من المهم ألا تكون مصر متأخرة في تحركها نحو الجمهورية الإسلامية، ولكن من المهم أن يكون ذلك بتوافق مصري- خليجي، وبخطوات واقعية ورشيدة، بحيث لا يبدو السلوك المصري بشكل المهرول نحو إيران.
هنا، من المطلوب من مصر المكاشفة مع ثلاثة أطراف أساسية:
1- مع الجمهورية الإيرانية: بتأكيد أن الخلاف بين البلدين ليس فقط بسبب الخليج، ولا "شارع الإسلامبولي"، وإنما بسبب النهج التدخلي الإيراني في الشئون الداخلية المصرية والعربية. لقد انتهت كثير من الدواعي التي شكلت عقبة في طريق العلاقات، ومنها النهج الإيراني الراديكالي إزاء الغرب، والذي كان يصعب أن تكون مصر إحدي دوائره، والآن اتجهت إيران نفسها إلي الغرب. وإذا كانت الجمهورية الإسلامية تتجه لإدارة علاقاتها بما يخدم وضعيتها في الخليج، فإن عليها أن تأخذ في الحسبان العلاقة الخاصة بين مصر ودول مجلس التعاون، وأن علاقاتها مع طهران ستكون في شكلها الأمثل، كلما تفهمت إيران الحسابات الأمنية والوطنية للدول الخليجية. ومن ثم، لن تكون مصر محورا مع إيران علي حساب رابطتها مع دول مجلس التعاون الخليجي. وأيضا من المهم لإيران أن تقر بحرية حركة الطرف العربي في عمل ترتيبات تخص الأمن القومي في تفريعته الخليجية، وأن دعوتها لمظلة أمنية في الخليج لن تكون علي حساب الروابط المصرية - الخليجية.
2- مع دول مجلس التعاون: من المهم بالنسبة لمصر أن تؤكد ضرورة الدخول في علاقات مع إيران بشكل منسق، وأن مقتضيات الأمن القومي العربي - في تفريعته الخليجية- تفرض علي دول المجلس إشراك -أو علي الأقل إطلاع - مصر علي محادثاتها السياسية مع إيران، لأن كثيرا من الخلافات الخليجية مع إيران هي ذاتها الخلافات المصرية معها، وحتي لا تعاني مصر ما عانته دول المجلس، جراء التجاهل الأمريكي لها في المشاركة في الاتفاق النووي. وبالتالي، علي مصر أن تكون طرفا في إعادة ترتيب وضعية إيران إقليميا. وفي سياق الصفقة الإقليمية الكبري، ينبغي استغلال رغبة إيران في ترتيب علاقاتها الخليجية بتصحيح المداخل الإيرانية مع العالم العربي. وإذا كانت دول عربية قد تمكنت من عزل علاقاتها الاقتصادية مع إيران عن الخلاف السياسي معها، فإنه يمكن تعميم النهج نفسه في علاقات مصر بإيران. وتعد الإمارات من أهم الشركاء التجاريين لإيران، ومركزا إقليميا للنقل والخدمات المالية التي تعتمد عليها بشكل كبير، ويتوقع أن يرتفع حجم التجارة بين الإمارات وإيران بما بين 15٪ و20٪ خلال السنة الأولي التي تلي رفع العقوبات. وكانت تجارة الإمارات مع إيران قد بلغت 23 مليار دولار عام .2011
3- مع الداخل المصري: وخصوصا الجماعات السلفية الرافضة للعلاقات مع إيران، لدواع تتعلق بما تراه من خطر المذهب الشيعي، بتأكيد أن خطر التشيع ليس بالشكل الذي يجري تصويره، وأنه علي الرغم من اقتراب إيران من دول الخليج العربية، والوجود الشيعي بها، فلم تشهد هذه الدول إلا ازدياد "التسلف"، وأن السلوكيات والممارسات الشيعية في مصر يمكن أن تزداد بعد إقامة العلاقات، ولكن ذلك يجري مواجهته بالقوانين، وليس بعدم بناء علاقات، وأن هذه الممارسات لا تعود للميول الشيعية، أو الاستهواء الشيعي بين المصريين، أو لقوة تأثير المذهب الشيعي، وأن التشييع المذهبي ليس هو الأولوية علي خريطة التفكير السياسي الإيراني، وأن أقصي ما تطمح إليه النخبة السياسية والدينية في إيران هو اعتراف وتقارب مذهبي مع مصر، وليس الدخول في معركة "تشيع"، أو "تسنن". فضلا عن ذلك، هناك عناصر تأثير ثقافية وحضارية مصرية في إيران ربما تفتقدها مصر بالابتعاد عن إيران ومعاداتها، وأن هناك إمكانية لبناء حوار بين المذاهب يعمل علي التقريب بين العالم الإسلامي، ويؤكد هوية إيران الإسلامية، بعد تزايد الدعوات لإحياء الهوية الفارسية.
رابعا - الاقتراب المتدرج:
تظل الوضعية الراهنة للعلاقات المصرية - الإيرانية غير طبيعية، ومن المرجح أنها ستتغير. وإذا كانت القضايا المذهبية والثقافية هي أكثر ما يقلق الجماعات السلفية بالداخل، وإذا كانت العلاقات السياسية هي أكثر ما يقلق بعض دول الخليج، فإن اقتراب المنفعة المتبادلة القائم علي العلاقات الاقتصادية هو الأصوب في بناء العلاقات مع الجمهورية الإيرانية في المرحلة الأولي، وهو أيضا الاقتراب المتبع من جانب بعض دول الخليج.
إن إعادة إيران في يوليو 2015 تأكيد قرارها السابق بإلغاء شرط حصول المصريين علي تأشيرة دخول إلي أراضيها يشير إلي أن لدي إيران رغبة حقيقية في بناء علاقات مع مصر، في الوقت نفسه الذي تبني فيه علاقات جيدة مع دول الخليج العربية. وتشكل الفترة الراهنة فترة حاسمة في بناء العلاقات، في ظل ما يتوقع من تنافس دولي كبير علي إيران، حيث يتوقع أن تستعيد إيران نحو 150 مليار دولار، وسوف تشهد عمليات إعادة بناء وتشييد داخلي، من المرجح أن تمتد لعقود، ويمكن لمصر أن تجني حصة من تلك التعاقدات. ويمكن لمصر أن تصبح ممرا دوليا لجزء مهم من صادرات وواردات إيران، خصوصا مع الدول الأورو- متوسطية، وأن تسهم في عمليات الانفتاح الإقليمي والدولي علي المنطقة، بما يعزز مكانتها في تقديم الخدمات اللوجيستية، ويعزز الدور العالمي لقناة السويس. ولا يمكن لمصر أن تصبح جزءا من طريق الحرير الجديد، ومبادرتي حزام طريق الحرير الاقتصادي، وطريق الحرير البحري اللتين أطلقتهما الصين في عام 2013، واللتين تهدفان إلي التقريب بين دول آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، من أجل دفع عمليات تشييد البنية التحتية، والتعاون المالي، والتبادل الثقافي بين هذه المناطق، إلا بعلاقات مستقرة مع منطقة الخليج وإيران.
وعلي الصعيد السياسي، فإنه من المهم، تاليا علي تشبيك المصالح الاقتصادية، أن يسعي البلدان إلي تعزيز علاقاتهما السياسية. وهنا، سيكون علي مصر التأكيد للجانب الإيراني أن علاقاتها السياسية لن تكون علي حساب شراكاتها الخاصة مع دول الخليج في الجوانب السياسية، والأمنية، والعسكرية. كما أن التنسيق مع إيران في العلاقات الدولية سوف يتحدد بحسب كل قضية، ولن يكون علي غرار تحالف أو علاقة خاصة. وتاليا، من المهم لكل من مصر، والسعودية، والإمارات أن يكون لديها الطموح، وامتلاك الرؤية حول منهج للتغيير داخل الجمهورية الإيرانية، فالمجتمع الإيراني ليس كائنا أصم. وهناك إمكانات عربية للخروج من دائرة الهواجس والشعور بنقص الثقة تجاه إيران. وفي هذا الصدد، يمكن العمل علي تعزيز الإصلاحيين والمعتدلين بين رجال الدين والسياسيين، وتعزيز أرضيتهم الاجتماعية، بعد الاتفاق النووي، وإلزام إيران بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، وغير ذلك من سياسات تصل بإيران في النهاية إلي أن تكون دولة طبيعية.
وعلي الجانب الثقافي والمذهبي، وهو آخر ما يجب التركيز عليه في الحوار مع إيران، فإن الأساس أن تعمل كل من مصر، ودول الخليج، وإيران علي تعزيز التقارب، وتخفيف حدة الاستقطاب والعداء المذهبي، وليس أن تشجع التسنن أو التشيع. ومن المهم للعالم العربي أن يتصرف بواقعية، بحيث لا يتم توظيف إيران غربيا ضد العرب، وإنما استقطابها إلي علاقات صداقة تؤثر إيجابيا في الاستقرار الإقليمي. ويحتاج ذلك إلي تعزيز ثقافة الحوار والتعايش، واغتنام اللحظة التاريخية، وليس بعث وإحياء الخلافات حول شخصيات دينية وتاريخية. يتطلب ذلك برامج ومناهج جديدة في التعامل قد تنتهي إلي إدخال تعديلات علي المناهج التعليمية والدراسية واللغة المذهبية، وخطب المساجد والمنابر، بما يؤدي إلي تغيير الصور الذهنية والنفسية الخاطئة عن الآخر المذهبي.
وإذا لم تثمر كل هذه المداخل بناء علاقات جيدة مع إيران، فإن الدخول في العلاقات البينية هو أجدي وأكثر نفعا من التباعد، حتي لو أنتج هذا "التوريط" في العلاقات في المدي القصير والمتوسط ظواهر غير صحية. ففي كل الأحوال، سوف يمتلك العرب ومصر أوراق ضغط علي إيران حين يبنون علاقات معها. وساعتها، يمكن الضغط لأجل دفعها للتنازل في قضية الجزر، وفي قضايا أمن الخليج، وفي الملفات الداخلية.
وفي كل الأحوال، ستبقي مصر مطلوبة خليجيا كعنصر أمان واستقرار إقليمي في علاقات آمنة بين دول الخليج العربية وإيران.
الهوامش :
1- انظر: محمد إبراهيم الدسوقي، رسالة إيرانية لمصر، الأهرام، 20 يوليو .2015
2- انظر: د. نصر محمد عارف، مصر وإيران: 35 عاما من المعونات والعقوبات، الأهرام، 20 يوليو .2015
3- صلاح سالم، العد التنازلي لتخريب إيران، الأهرام، 23 يوليو .2015
4- محمد عبدالهادي علام، الاتفاق الإيراني: محاذير استدعاء جماعات الإرهاب في المواجهة الجديدة، الأهرام، 24 يوليو .2015
5- صلاح سالم، العقل المصري في مواجهة الحقيقة الإيرانية، الأهرام، 28 يوليو .2015
6- طارق الحميد، هل إيران تتغير؟، الشرق الأوسط، 9 أغسطس .2015