لم تكن روسيا بغائبة عن سوريا خلال نصف قرن مضى. مع الأخذ في الاعتبار أن موسكو ترث الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن بهوية أيديولوجية قومية، مقابل الهوية الاشتراكية الأممية السابقة. والحضور العسكري الكبير حالياً لروسيا في سوريا هو بمثابة تذكير وامتداد لحضور تاريخي ممتد منذ الحكم اليساري في سوريا 1965- 1970، وخلال الحقبة الطويلة لحكم الرئيس السابق حافظ الأسد، وصولاً إلى أيامنا هذه، وحيث لا يقتصر وجودها على قاعدة طرطوس بل يشمل التزويد بالأسلحة والمعدات الثقيلة والخبرات العسكرية المتنوعة.
في واقع الأمر أن ما يحدث هو تعزيز للوجود الروسي وتعظيم له في هذا البلد على المدى الطويل، وبصرف النظر عن أية تطورات سياسية قد تقع في المستقبل المنظور وما بعده، وبصرف النظر أيضاً عن مصالح الشعب السوري. والقول بأن موسكو جاءت لتحارب «داعش» لا يقنع أحداً، فقد رفضت موسكو من قبل الانضمام إلى التحالف الدولي / العربي الذي يضم عشرين دولة لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي في أغسطس/آب 2014. علماً أن «داعش» موجود في العراق أيضاً.
معلوم أن موسكو توجست من موجة الربيع العربي خلال السنوات الخمس الأخيرة ورأت في سقوط معمر القذافي خسارة لها. وقد احتجت آنذاك على التدخل الجوي الغربي في ليبيا، ورأته خارج الشرعية الدولية (الأمم المتحدة)، وذلك دونما إشارة إلى المجازر التي كان يرتكبها القذافي، ويستعد آنذاك لارتكاب المزيد منها في أكتوبر/تشرين الأول2011، وما إذا كانت تتفق مع القانون الدولي. وبعيداً عن ليبيا لم تنظر موسكو إلى التطورات الإقليمية في السنوات الخمس الماضية سوى من منظور مصالحها القومية الخاصة. وخارج منطقتنا فقد تدخلت في جورجيا عام 2008 وفي القرم عام 2014 مع تدخل بالوكالة في أوكرانيا، وبعيداً عن الشرعية الدولية. من حق كل بلد بالطبع أن يحافظ على مصالحه المشروعة، وأن يقيم ما يشاء من علاقات مع دول أخرى أو ألا يقيم علاقات، غير أن موسكو في عهدها الحالي تقفز عن مبدأ دولي أساسي هو حق الشعوب في تقرير مصيرها، ناهيك عن حقوق الإنسان.
لأسابيع قليلة خلت كانت موسكو ترعى مفاوضات بين أطراف الأزمة السورية. وكان الظن أنها قد تمارس بعض الضغوط على جميع الأطراف من أجل تحسين فرص التوصل إلى حل سياسي. ها هي الآن تتحول إلى طرف في الأزمة. وها هو الوجود العسكري المتعاظم لها في سوريا، يعزز فرص «حلول» عسكرية لا غير. وقد رأى العالم كله كيف أدى الحل العسكري المتبع منذ اندلاع الأزمة إلى تدمير سوريا، وتمزيق المؤسسة العسكرية، وتشريد الشعب، وتقويض الدولة.. وانتعاش «داعش»!. ومن يتابع التقارير على مدى الساعة بوسعه ملاحظة أن أقل القليل من الجهد يبذل لمحاربة التنظيم الإرهابي، فيما تتوجه النيران إلى أهداف أخرى في طليعتها الأهداف المدنية وهو ما يفسر كارثة اللجوء المروعة التي لا سابق لها في تاريخ سوريا. ففيما كانت الأنباء تتوالى الخميس الماضي 17 سبتمبر/أيلول عن الطور الجديد من الوجود العسكري الروسي، كانت الأنباء تتحدث عن مجزرة مروعة في حلب سقط خلالها نحو مئة ضحية من المدنيين، في مدينة الشهباء التي تشهد دماراً شبه تام، وأيضاً لأول مرة في تاريخ هذه الحاضرة العربية العريقة.
أجل، هناك الآن خشية حقيقية من أن يشهد البلد المنكوب تصعيداً عسكرياً جديداً يحمل مضامين مثل الأرض المحروقة عبر أسلحة فتاكة تقوض ما تبقى من مظاهر الحياة والعمران. والحديث عن محادثات عسكرية بين موسكو وواشنطن لتنسيق الحملات الجوية على «داعش»، قد لا تنتهي لشيء سوى إلى تشريع الوجود الروسي المتعاظم. فيما يتم في الأثناء استثمار وجود «داعش» من قبل موسكو وغير موسكو لتحقيق أهداف أخرى غير استئصال شأفة التنظيم الإرهابي.
وفي المحصلة فإن الصراع الدولي على سوريا يشهد مع التطور الروسي الجديد مزيداً من التفاقم، دونما أدنى التفات لأدنى حاجات السوريين. وبغير بذل جهد يذكر لحل سياسي يضع حداً للأزمة الطاحنة المتطاولة. بل ترتفع في الأثناء سيناريوهات تتحدث عن تقسيم سوريا، وثانية تتحدث عن استخدام أسلحة أكثر تطوراً في استهداف مدن آهلة، وأخرى تتحدث عن اختفاء هذا البلد، فيما لا ترى كثرة من المتصارعين شيئاً سوى مصالحهم «الاستراتيجية» القومية المباشرة والبعيدة، ولو كان ذلك على حساب كل شيء في سوريا.
من اللافت أن الجامعة العربية بيت العرب كفّت عن الانشغال بسوريا والسوريين وتركتها مسرحاً لصراع إقليمي ودولي، ولنظام يرفض مبدأ الحلول السياسية، ولا يعرف سوى الحلول العسكرية الصفرية. ولئن كانت الأزمة هي حقاً على درجة كبيرة من التعقيد، إلا أن ذلك لا يعفي المؤسسة العربية الأولى من واجب الانشغال بها. فلا أحد في الجامعة على مستوى الأمانة العامة أو سواها يتحدث مثلاً عن حل عربي واجب للأزمة. حل يُذكّر الأطراف الدولية والإقليمية بأن سوريا بلد عربي، وشعبها شعب عربي. وأن مسؤولية تخليص السوريين من محنتهم تقع على عاتق أشقائهم العرب أولاً وقبل أي طرف آخر. وحتى لو لم تتوفر أية فرصة واقعية لحل عربي، لكن تحديد معالم هذا الحل من شأنه التأثير على المواقف الدولية والإقليمية، بحيث يصبح هذا الحل المنشود أو المفترض وحدة قياس ومعياراً للحكم على سلوك الآخرين ومواقفهم.
-------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 21-9-2015.