لقد كانت مفاجأة عبقرية بأن يطلق الشباب المحتجون في لبنان اسم «طلعت ريحتكم» على حركتهم. ففي كلمتين اثنتين فقط، أصابوا كبد حقيقة الأزمة المتعلقة بالقمامة المتراكمة ومشكلات لبنان الهيكلية المتفشية منذ أمد طويل.
ومنذ أشهر تتراكم القمامة في مدن البلاد، بينما يُساوم السياسيون فيها على منح عقود جمعها والتخلص منها. ولكن، كما يشير المتظاهرون، وهم محقون، فهذه الفوضى ليست سوى دلالة على العفن المتجذر والمتمثل في الفساد داخل لبنان، والنظام السياسي الطائفي المشلول في الوقت الراهن.
فالبرلمان لا يعقد جلساته، ولا يمكن أن يحشد الأصوات اللازمة لانتخاب رئيس جديد (ومن ثم لا يزال المنصب شاغراً منذ عامين تقريباً)، كما أنه لم يقر موازنة منذ نحو عقد، ومدد تفويضه مرتين، لأنه لا يمكنه الاتفاق على كيفية إجراء الانتخابات المقبلة.
وربما يقول المرء إن لبنان يمثل حلم المحافظين الأميركيين، ويجسد شعارهم: «الحكومة التي تحكم أقل، تحكم أفضل»، وقد يتفق المرء مع ذلك الشعار إلى أن يشم رائحة القمامة!
بيد أن لبنان يمر الآن بمرحلة دقيقة، لا سيما أن الحرب الدامية في الجوار تلهب نيران الطائفية، وقد انخرط فيها بصورة مباشرة بعض اللبنانيين (خصوصاً «حزب الله»)، وهجّرت نحو مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، واضعة ضغوطاً شديدة على موارد البلاد ونظامها السياسي المتحلل.
ويتفاجأ المراقبون من أنه حتى في ظل تلك الضغوط، لا يزال لبنان هادئاً بصورة ملحوظة. وحتى الآن، تعتبر «طلعت ريحتكم» هي حركة الاحتجاج الأولى التي تعبر عن غضب جماهيري.
وبرغم ذلك، تعتبر مشكلة لبنان أشد عمقاً، إلى درجة أنها لن تُحلّ بالاحتجاجات الجماعية، خصوصاً أن النظام الطائفي منتشر، وبرغم الثقافة السياسية النشطة والحريات النسبية في لبنان، إلا أن هناك غياباً ملحوظاً للمؤسسات السياسية الوطنية غير الطائفية التي يمكن أن تكون وسائل للتغيير المنشود.
غير أن هناك شيئاً يمكن البناء عليه، فمن خلال تحليل استطلاعات الرأي التي أجريناها في لبنان خلال العقد ونصف العقد الماضيين، لاحظت تقارباً ملحوظاً في الرؤى عبر الطوائف المختلفة يمكن أن يشكل أساساً لحركة شعبية واسعة النطاق من أجل إحداث تغيير جذري. فمن الملاحظ مثلاً، أنه عندما سئل اللبنانيون عما إذا كانوا يؤيدون الانتخابات التي تعتمد على نظام المحاصصة الطائفي الحالي أو نموذج «الصوت الواحد للشخص الواحد»، أكد غالبية اللبنانيين من الطوائف كافة أنهم يفضلون الطريقة الأخيرة.
وبالطبع، ستجد الكيانات القائمة في نهاية المطاف طريقة لجمع قمامتها، ولكنها لن تتخلى طوعاً عن امتيازاتها. غير أن ما يحتاجه لبنان هو حركة سياسية قادرة على قبول أجندة إصلاح وطني يمكنها حشد اللبنانيين حول القضايا التي توحدهم، حركة يمكنها أن تقدم مرشحين يخوضون الانتخابات البرلمانية المقبلة، وتبدأ عملية الدفع بجيل جديد من القادة إلى مقدمة الساحة السياسية.
-----------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 30-8-2015