انتخب الكسيس تسيبراس زعيم حزب سيريزا اليساري الراديكالي، في يناير/كانون الثاني الماضي، على أساس برنامج انتخابي ينتقد برنامجي المساعدات الأوروبيين اللذين فرضا على اليونان، في العامين ٢٠١٠ و٢٠١٢ بقيمة ٢٤٠ مليار يورو بهدف إنقاذها من الإفلاس الوشيك، مقابل الوعد بإجراء إصلاحات جذرية قاسية في مجالات مالية وضريبية واجتماعية واقتصادية عديدة. لكن الزعيم الشعبوي انتهى، بعد مفاوضات شاقة مع الدائنين الأوروبيين وصندوق النقد الدولي، بالتوقيع على برنامج ثالث، بقيمة ٨٦ مليار يورو على مدى ثلاث سنوات، تفادياً لخروج اليونان من منطقة اليورو.
وما إن حصلت الحكومة اليونانية على الدفعة الأولى من هذه المساعدة، وقدرها ٢٣ مليار يورو، في ١٩ أغسطس/آب الماضي حتى سارع رئيسها تسيبراس إلى تقديم استقالته داعياً إلى إجراء انتخابات مبكرة في ٢٠ سبتمبر/أيلول المقبل. وبالطبع فقد أعلن بأنه «مرتاح الضمير» بعد أن «نجح في مقاومة الضغوط والابتزاز»، مضيفاً «بعد أن انتهت هذه المرحلة الصعبة فإنني أود أن أطرح ما حققناه أمام الشعب». ولا يخفى على عاقل أن الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات المقبلة، أي شهر واحد فقط، ليست كافية لكي ينجح خصومه، لاسيما رفاقه الذين انفصلوا عنه وشكلوا حزباً جديداً، في تنظيم انفسهم تمهيداً لإلحاق الهزيمة به في انتخابات يريد منها العودة إلى الحكم أقوى ومع شرعية من المفترض أنه فقدها بعدما أخل بوعوده الانتخابية لاسيما تلك المتعلقة بالمحافظة على الكرامة والاستقلال الوطنيين في مواجهة وحوش الرأسمالية الأوروبيين الذين يسعون إلى فرض شروطهم المذلة على الشعب اليوناني.
بالطبع بارك الأوروبيون هذه الاستقالة، بل هناك من يقول إنهم كانوا وراءها طمعاً في الاستحواذ على شرعية شعبية مباشرة للبرنامج الثالث بعدما وافق البرلمان اليوناني عليه. فقد أعلن مدير مكتب رئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود جنكر بأن «الانتخابات المبكرة في اليونان قد تكون الوسيلة الأفضل لتوسيع قاعدة دعم برنامج المساعدة». وهذا يعني بأن الشعب اليوناني، ومعه رئيس حكومته تسيبراس، الذي قال «لا» في استفتاء ٥ يوليو/تموز الماضي (بنسبة ٦٢ في المئة) يجب عليه أن يسحب هذه ال«لا» ويعلن تأييده لبرنامج المساعدة الجديد عبر التصويت لمصلحة تسيبراس. واستكمالاً لمسار إذلال الشعب اليوناني أعلن رئيس اليورو جروب (تجمع وزراء مالية الاتحاد الأوروبي) الهولندي جيروين ديجسلبلوم بأن «هناك دعماً كبيراً لبرنامج الإصلاحات في البرلمان اليوناني. وآمل أن تقود هذه الانتخابات الجديدة إلى المزيد من هذا الدعم (...) وبأن الدائنين لن يخفوا فرحتهم برؤية تسيبراس يتخلص من أصدقائه القدامى».
وإذا كان تحويل ٢٣ مليار يورو إلى أثينا كدفعة أولى من برنامج المساعدة، قد تحقق بسهولة وسلاسة فإن تحويل الدفعات المتبقية مرتبط بتقدم اليونان على طريق تنفيذ الإصلاحات، وهذا لن يكون بهذه السهولة، على ما توقعت وكالة موديز العالمية. وكما هو معلوم فإن ١٣ مليار يورو من هذه الدفعة الأولى ستذهب لمساعدة المصارف اليونانية على توفير سيولة لعملها، في حين أن المليارات العشرة الباقية سوف تصرف على الفور لسداد ديون مستحقة على أثينا لمصلحة مؤسسات دائنة أوروبية وصندوق النقد الدولي.
بالطبع في مقابل هذا البرنامج الثالث كان على اليونان أن تقبل ما سبق ورفضته بعناد من إجراءات تقشف غير شعبية وغير مضمونة النتائج (إلغاء عدد من أنظمة التقاعد المسبق، إصلاح سوق الطاقة وتحرير سوق الغاز، إصلاحات ضريبية، مكافحة الفساد المالي، برنامج خصخصة يطال الموانىء والمرافىء والمطارات وسكك الحديد بما يحقق حوالي خمسين مليار يورو على المدى الطويل...الخ). هذه الإجراءات المفروضة من الأوروبيين تقع في أربعمئة صفحة وسوف تقود إلى تغييرات جذرية في النظام المالي والضريبي وقوانين العمل والتنافس والضمان الاجتماعي والتقاعد.. الخ بموجب روزنامة محددة وضيقة. وبشكل عام فإنها إجراءات تقشفية صارمة وصفها اليساريون الذين انفصلوا عن تسيبراس (وعددهم ٤٥ شكلوا حزباً جديداً هو «الاتحاد الشعبي») في سيريزا بأنها «انقلاب قام به الدائنون على الدولة اليونانية».
والحقيقة أن هذا البرنامج لم يكن ليحظى بموافقة البرلمان اليوناني لولا تصويت ١٥٠ نائباً من المعارضة لمصلحته، في حين أدار ثلث نواب سيريزا ال١٤٩ ظهرهم لتسيبراس الذي فقد بذلك الأغلبية البرلمانية (بات يعتمد على ١١٩ نائباً من أصل ٣٠٠) واضطر للذهاب إلى انتخابات تشريعية هي الثالثة في عام ونصف العام . ويشعر بأنه سوف يفوز فيها لأن خطابه الشعبوي لا يزال يحظى بتعاطف شعبي ولأن الحزبين المعارضين الأساسيين، «الديمقراطية الجديدة» (يمين) و«الاشتراكي» لا شعبية لهما البتة، والشعب يأخذ على معارضي برنامج المساعدات الأوروبي عدم تقدمهم ببديل عنه سوى الشعارات الجوفاء، وينسى بأن تسيبراس هو أول من أطلق مثل هذه الشعارات قبل أن يتخلى عنها أمام مخاطر تخلي أوروبا عن اليونان وتركها تغرق وحدها.
لكن رغم كل شيء، هل ينجح البرنامج الأوروبي الجديد في إنقاذ اليونان؟ دون شك على المدى المنظور سوف يحميها من الإفلاس، ولكن من الصعوبة بمكان تقديم التكهنات والتوقعات على المدى الأطول. بيد أنه في الانتظار يمكن القول إن الأوروبيين، بموافقتهم على بذل تضحيات مالية جديدة من أجل اليونان، برهنوا بأن اليورو رمز سياسي وسيادي أكثر مما هو عملة موحدة، كما برهنت أثينا عن تمسكها بالبقاء في أوروبا مهما غلت تضحيات... الشعب اليوناني.
----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 30-8-2015.