تاريخ النشر: 23-8-2015
تشهد العلاقات الفرنسية- المصرية تقاربًا ملحوظًا، منذ تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي السلطة، فقد بلغ عدد الزيارات الرسمية بين البلدين أكثر من 20 زيارة على مستوى رؤساء ووزراء وكبار المسئولين منذ نوفمبر 2014، عكست جميعُها تقاربًا في وجهات النظر إزاء القضايا الثنائية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والأزمة الليبية، وكذلك رغبة البلدين في تقوية شراكتهما التي تمتد عبر قرنين من الزمان في المجالات الاقتصادية، والعسكرية، والثقافية.
أولا- علاقة عبر قرنين:
تميزت العلاقات المصرية- الفرنسية بخصوصية عبر قرنين من الزمان، كانت متوترة أحيانًا، ودبلوماسية في كثير من الأحيان. وظلت طوال تلك الفترة مسيرة مفتوحة بين باريس والقاهرة، جعلت من العمل السياسي والدبلوماسي بين البلدين ركيزة مهمة من ركائز العلاقات بين أوروبا والعالم العربي. ويُمكن تحديد أهم المحطات التي مرت بها العلاقات بين البلدين حتى قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، على النحو الآتى:
1. فترة ما بعد الحملة الفرنسية على مصر حتى حرب السويس عام 1956، حيث كانت العلاقات خلالها فيها قدر من العثرات، والعدوان، والسخونة، لكن كانت في مجملها من أمتن العلاقات التي أقامتها مصر مع دول أخرى. وقد كانت في بداية هذه الفترة امتدادًا للعامين اللذين قضاهما الفرنسيون في مصر، من حيث النهضة العلمية، والثقافية، والصناعية التي بدأها محمد علي. فمصر خلال القرن الـ18 جعلت من فرنسا مقصدًا لبعثاتها الطلابية، واعتمدت على المستشارين الفرنسيين إن أرادت أن تُنشئ مدارس، أو أن تُنشئ جامعة وهيئة علمية، أو أن تُجدد حياتها في أي فرع من الفروع الإنتاجية. فالفرنسيون خلال تلك الفترة شاركوا في بناء القناطر والجسور، والأبنية الهندسية، والمدارس. وفي المجال العسكري، استعان محمد علي باشا بضباط فرنسيين في تأسيس جيش مصر الحديث، وفي تأسيس البحرية الحديثة. وقد دخلت العلاقات المصرية- الفرنسية أسوأ مراحلها خلال تلك الفترة بعد تأميم قناة السويس، حيث تحالفت فرنسا، بقيادة الاشتراكي جي مواليه، مع بريطانيا وإسرائيل للتصدي لقرار التأميم عبر العدوان على مصر.
2. العلاقات منذ فترة حكم الجنرال ديجول، فقد قامت العلاقات المصرية- الفرنسية منذ تولي الرئيس عبدالناصر حتى ثورة الـ25 من يناير على التعاون المثمر. فقد تميزت السياسةُ الخارجية الفرنسية، منذ فترة حكم الجنرال ديجول، مرورًا بمن خلفوه، سواء كانوا ينتمون إلى اليمين، أو إلى الوسط، أو اليسار، أي (خلال فترات حكم الرؤساء وديستان، وميتران، وشيراك وأولاند) بالتعاون الاقتصادي، والتجاري، والتقني على المستوى الثنائي، والفهم الواعي للتطورات الإقليمية والدولية، خاصةً المواقف الفرنسية من الصراع العربي- الإسرائيلي، وحقوق الشعب الفلسطيني. وقد شهدت تلك الفترة ازدهارًا في العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين البلدين خلال الفترة من 1974 حتى عام 2011، تمثلت في الآتى:
أ. المستوى الاقتصادي: حيث تنوعت العلاقات الاقتصادية بين البلدين حتى قبل 2011 إلى استثمارات مباشرة وتبادل تجاري، وتمويل تفضيلي، كانت على النحو الآتى:
1. فرص الاستثمار، حيث تأتي فرنسا من ضمن أوائل المستثمرين الأجانب في مصر بما يزيد على 100 شركة تعمل في السوق المصرية في قطاعات متنوعة، من أهمها: قطاع الخدمات، وقطاع السياحة، وقطاع النقل البحري والجوي، وقطاع الاتصالات، وتجارة التجزئة، ومواد البناء.
2. التبادل التجاري، حيث تنوعت الصادرات الفرنسية لمصر منذ عام 1973، وتتمثل أغلبها في القمح، ومعدات الطيران. وقد بلغت أعلى قيمة للصادرات الفرنسية لمصر خلال تلك الفترة 1.372 مليار يورو. كما بلغت أعلى قيمة للصادرات المصرية خلال الفترة نفسها 910 ملايين يورو، سواء من منتجات الهيدرو كاربون، أو من السماد.
3. التمويل التفضيلي، فمنذ عام 1974، استفادت مصر من أكثر من 3 مليارات يورو كتمويل من جانب الشركات الفرنسية لدعم البنية التحتية المصرية، ويعد مشروع مترو الأنفاق بخطوطه الثلاثة مثالا واضحًا لهذا التعاون.
ب. المستوى العسكري: بعد عام 1971 ، عقدت كل من فرنسا ومصر عدة اتفاقيات عسكرية، كان من أهمها اتفاق التعاون العسكري والفني الذي وقع عليه بالأحرف الأولى كل من المشير طنطاوي، ووزيرة الدفاع الفرنسية، إليو ماري، أثناء زيارتها للقاهرة في 30 يونيو عام 2005، وهو ما أعطى دفعة جديدة للعلاقات العسكرية بين البلدين، تمثلت في الآتى:
1. تدريبات وأنشطة، حيث تُجري القوات المسلحة المصرية والفرنسية تدريبات ثنائية مرة كل عامين على الأراضي المصرية. وتشترك الدولتان في تدريبات بحرية تعرف بـ"كليو باترا"، وهي تقام في الأعوام ذات الأرقام الزوجية، وقد أقيمت آخر تدريبات بحرية من هذا النوع على سواحل الإسكندرية في الفترة من 8 إلى 13 ديسمبر 2012، حيث شارك الجانب الفرنسي في هذه التدريبات من خلال الفرقاطة جان بارت والسميرية. وتُجرَى أيضًا تدريبات جوية ثنائية بين البلدين تحمل اسم "نفرتاري"، وكان آخرها التي أُجريت من 29 أكتوبر إلى 12 نوفمبر 2012.
2. تجهيزات ومعدات. فمنذ منتصف السبعينيات، يُوجد جزء كبير من المعدات العسكرية المصرية فرنسية الصنع من طائرات الميراج، والألفاجيت، والمروحية غازال، وأجهزة الاتصال والإشارة. كما يتم تبادل الخبرات العسكرية بين البلدين في مجالات التكنولوجيا، وصيانة المعدات.
ثانيًا- تحديات مشتركة بعد 30 يونيو:
أدت التحديات المشتركة التي تُواجه البلدين منذ 30 يونيو 2013 إلى إعادة هيكلة العلاقات فيما بينهما على أساس المصالح المتبادلة، وتمثلت تلك التحديات فيما يأتي:
أ. التمدد الإرهابي على الصعيد الإقليمي والشرق أوسطي، حيث اتفق مسئولو الدولتين، خلال زيارة رسمية تمت من فرنسا لمصر ومن مصر لفرنسا، على كيفية مواجهة مخاطره على المستويين الإقليمي والدولي. وقد أقرت فرنسا خلال تلك اللقاءات بمساعدة مصر في مواجهتها للإرهاب الذي تتعرض له، وضرورة محاربة مرتكزاته في كلٍّ من سوريا، وليبيا، والعراق.
ب. استمرار التوترات في المناطق المؤثرة فى الأمن القومي للدولتين، حيث أكد الطرفان ضرورة دعم الاستقرار في مناطق التوترات في كلٍّ من سوريا، وليبيا، والعراق، واليمن من خلال دعم الحل السياسي، وإتاحة الفرصة لسكان تلك الدول لبناء مؤسساتهم، واختيار ممثليهم دون تدخل خارجي.
ت. تهديد الأمن في البحر المتوسط، حيث يشكل تهديد المتوسط مخاطر كبيرة على الأمن القومي للدولتين، خاصة في ظل تزايد معدلات الهجرة غير الشرعية، واستخدام الجماعات الإرهابية لسواحل البحر في عمليات نقل السلاح، والتسلل عبرها.
ثالثًا- مواقف متقاربة:
بعد الـ30 من يونيو، تلاقت وجهات نظر مسئولي البلدين عبر حوارات ثنائية، كانت حول ملفات إقليمية متنوعة ذات اهتمام مشترك، كان من أهمها عملية السلام في الشرق الأوسط، والوضع في لبنان، وفي السودان، فضلا عن البرنامج النووي الإيراني. فقد أخذت الدولتان مواقف متقاربة على المستويين الإقليمي والدولي في عدة قضايا، من أهمها:
1. التعبئة الدولية لمحاربة الإرهاب، حيث سعى البلدان منذ 30 يونيو إلى خلق تعبئة دولية من أجل محاربة المنظمات الإرهابية التي تهدد الأمن الإقليمي والعالمي.
2. الدعوة لاستئناف مفاوضات السلام لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967، حيث شدد البلدان على ضرورة دعم مفاوضات السلام. فقد تصدر بحث القضية الفلسطينية مباحثات متعددة بين مسئولي الدولتين، وأبدى الجانبان تقاربًا كبيرًا في ضرورة التمسك بحل الدولتين، واستئناف المفاوضات بين الإسرائليين والفلسطينيين.
3. وحدة الصف العراقي، حيث اتفقت الدولتان على دعم برنامج السلطات العراقية الذي يهدف إلى وحدة الدولة العراقية بغرض دعم الاستقرار الداخلي في العراق.
4. الانتقال السياسي لحل الأزمة السورية، حيث اتفقت الدولتان على التطبيق الكامل لإعلان جنيف المؤرخ في 30 يونيو 2012. ويحرص البلدان أيضًا على وحدة المؤسسات السورية.
5. الحل السياسي للأزمة الليبية، حيث أخذ البلدان مبادرة أكدت تمسك الدولتين بوحدة الأراضي الليبية وسلامتها، والانخراط في طريق الحوار برعاية الأمم المتحدة، مع ضرورة التنسيق التام بينها وبين الدول المجاورة لليبيا.
6. تعزيز التعاون فيما بينهما لتحقيق السلام والأمن في منطقتي الساحل والصحراء، حيث اتفق البلدان على مكافحة الإرهاب في البلدان الواقعة على ضفتي البحر المتوسط، وعلى التعاون فيما بينهما في مجال تبادل المعلومات والتدريب.
رابعًا- تعميق الشراكة:
تمثلت ملامح التعاون بين البلدين في الفترة الأخيرة في عدة مجالات، منها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو عسكري، هذا إلى جانب التعاون في مجالات الأمن الداخلي. ويمكن أن نحدد ملامح تلك الشراكة على النحو الآتى:
أ. المستوى الاقتصادي، تُعد ركائز التعاون الاقتصادي بين البلدين بعد 30 يونيو استمرارًا لتعاون مالي قديم تلعب فيه الوكالة الفرنسية من أجل التنمية دورًا رئيسيًّا. ويمكن تقسيم مجالات التعاون الاقتصادي التي من المحتمل أن تتطور بين البلدين على النحو الآتى:
1. الاستثمارات المباشرة، فمن المرجح أن تتوجه إلى قطاع النقل البري والموانئ، وعلى وجه التحديد استكمال مشروع مترو الأنفاق، والعمل في الخدمات اللوجيستية المرتبطة بمشروع تنمية قناة السويس. أما القطاع الثاني المحتمل أن تتوجه إليه الاستثمارات الفرنسية، فهو قطاع الطاقة الكهربائية والمتجددة، حيث أكدت اللقاءات التي أجراها رئيس وزراء مصر أخيرا في باريس حرص فرنسا على الاستثمار فيما يتعلق بالطاقة، وتنمية مصادرها في المناطق الحضرية والريفية.
2. التمويل التفضيلي، ومن المرجح أن يزداد حجمه خلال الفترة المقبلة، وقد يتوجه إلى بعض مشروعات البنية التحتية، ومشروعات التدريب والابتكار. وقد يزداد حجم التمويل التفضيلي الذي تقدمه الوكالة الفرنسية للتنمية، خاصة بعد سعي الرئيس الفرنسي إلى تأسيس لجنة اقتصادية مشتركة بين مصر وفرنسا تركز على تطوير مشروعات التمويل من المؤسسات الفرنسية والدولية.
ب. المستوى العسكري، حيث ارتكز التعاون بين البلدين خلال الشهور الأخيرة على مستويين مختلفين، هما:
1. التجهيزات والمعدات، حيث تم توقيع اتفاقية تسليح استثنائية بالنسبة لصناعات الدفاع الفرنسية في فبراير 2015. كما تم توقيع عقد تصدير طائرات "رافال" مقاتلة، بالإضافة إلى فرقاطة متعددة المهام، ومعدات أخرى ذات صلة.
2. تدريبات وأنشطة: تمت إعادة تجديد العمل ببرنامج الاستشارة السنوية للتسليح العسكري والاستراتيجي. وقد عقد الاجتماع الفرنسي- المصري الثالث عشر بباريس في ديسمبر 2014، وشارك فيه وزيرا دفاع البلدين، ورئيسا الأركان. وفي النهاية، يمكن القول إن فرص التعاون المحتملة بين فرنسا ومصر قد لا تقتصر على التعاون الاقتصادي والعسكري، بل قد تتطرق إلى تعميق التعاون الثنائي في المجالات الثقافية والعملية، وفي مجالات الأمن الداخلي، ما دامت فرنسا راغبة في تقوية شراكتها مع مصر، وتعزيز التعاون معها في مختلف القطاعات.