تبدو مسيرة «الحلّ السياسي» كأنّها انطلقت في سوريا. وقعقعة السلاح المتواصلة لا تخفي أصوات مبادرات الحلول أو التصريحات التي تلي حوارات كانت بعيدة الاحتمال حتى البارحة. ثمّة، في هذا الصدد، لقاءات روسية أميركية لافتة، ولقاءات سعودية ســــورية مفاجئة، واجتماعات عُمانية دالّة. كلّ ذلك في سياق توقعات بأن يكون للاتفاق النووي الإيراني مع دول (5+1) عواقبه الســـياسية في العراق واليمن وسوريا ولبنان. ودليل ذلك ما صدر سريعاً من مسوّدة جــــديدة لمبادرة إيرانية بخصوص سوريا، وما أثاره من نقاش بــــندها الـــــثالث الذي يدعو إلى «إعادة كتابة الدستور بما يتوافق وطمأنة المجـــموعات الإثنية والـــطائفية».
على الصعيد الداخلي، وبرغم دعوة أطراف خارجية هذه المعارضة أو تلك إلى هذا اللقاء أو ذاك في موسكو أو أستانا أو اسطنبول أو جنيف أو القاهرة أو سواها، يبدو ما يُدعى بالمعارضة السياسية السورية عموماً على أنّه الأضعف والأقلّ شأناً والأشدّ التباساً وغموضاً. ولا تخرج عن ذلك كثيراً تلك المعارضات المسلّحة التي تتميّز بطابعها الإسلامي شبه المطلق وتبعيتها التامة لمموّليها ورعاتها المختلفين وكون الغلبة والشوكة فيها للتيارات التكفيرية الإرهابية. وبعد ما يقارب السنوات الخمس على انطلاق الاحتجاجات السورية، لا تزال الأسئلة مطروحةً: مَن هي القوى المعارضة السورية التي يُفترَض أن تجلس قبالة النظام على طاولة الحلّ أو التفاوض السياسي؟ ما هي تعبيراتها؟ ومَن تمثّل؟ وهل ثمّة أهمية لحجم تمثيلها؟ وهل ستبقى ذات طابع سياسي حزبي ومدني غالب، على نحو ما هي عليه «هيئة التنسيق» و «الائتلاف» نوعاً ما، أم ستحل محلها على مدى المفاوضات الطويل قوى تمثّل الطوائف والعشائر والإثنيات والمقاتلين في ظلّ ركاكة أداء المعارضة السورية وتخلّفها الصارخ، بل تهافتها وربما تفاهتها، كما في ظلّ الدعوات والخطط المتنامية لاعتبار الصراع في سوريا مشكلة جماعات وطوائف وإقامة الحلول على هذا الأساس؟
ليس تزايد الدور الخارجي وتهافت الدور الداخلي سوى الدليل على خروج أعنّة الصراع من أيدي السوريين، الأمر الذي بدأ منذ اختيار الحلّ الأمني حلاً لمشكلة سياسية مزمنة وعميقة ومنذ اختيار التسلّح والعسكرة المقابلين ردّاً على ذلك. ومعنى هذا أنّ الارتهان للخارج كان قد بدأ باكراً جداً، بعد أشهر لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة من انطلاق الثورة السورية في 2011. وربما يبدو اليوم كما لو أنَّ القوى الخارجية على اختلافها قد حققت غاياتها في سوريا أو باتت أمام تحديات جديدة تقتضي حلولاً تصرف الدم السوري على أساس فواتير أخرى، أبرزها مواجهة الإرهاب. ولا يكاد يخرج عن ذلك سوى تركيا الأردوغانية التي لا يقتصر أمرها على ما تواجههه من مشكلات خطيرة متزايدة وعلى عدم تحقيق أيّ غاية بعد، بل يتعدّى ذلك إلى تنغيص شديد تشعر به بسبب احتمال خروجــــها من المولد بلا أيّ حمّص، حتى الحمـــّص السوري، بعدما زيّنت لها الأوهام إمبراطوريةً «إخوانية» تبدأ بتونس وتمرّ بليبيا ومصر وسوريا ولا يُعْرَف أين تنتهي.
بعد الهدم وتحقق الغايات وبروز احتياجات جديدة تأتي الحلول وضروب إعادة التركيب، خصوصاً بعدما بات الكيان السوري ككل عجينة قابلة للتشكل في صور شتّى بحسب مشيئة الفاعلين والصانعين. وهذا يعني، بالطبع، أنّ عبارة «الحلّ السياسي» لم تعد تعني ما كان يمكن أن تعنيه لو بقي الحاسم فيها هم السوريون أنفسهم، ولم يتحوّل هؤلاء في معظم قواهم السياسية إلى وكلاء للقوى الخارجية الإقليمية والدولية. وما يتجه إليه السوريون اليوم إنما هو ضرب من «الحلّ السياسي» بعد حروب طاحنة اقتلعت ما يقارب نصف الشعب السوري من بيوته، وقتلت مئات آلاف منه، ودمّرت معظم بنيته التحتية، وشقّت الجيش والعَلَم، وهتّكت النسيج الوطني، وجلبت الإرهاب والتكفير أو عززت مواقعهما، ولا تزال متواصلة. ومن الطبيعي، إذاً، ألا يكون «الحلّ السياسي» اليوم كما كان يمكن أن يكون عليه قبلاً.
والمؤسي في الأمر، بل الكارثي والمفجع فيه، أنّ «الحلّ السياسي» كان مكتوباً أصلاً في لوح الصراع السوري المحفوظ، لا بالمعنى العام الذي مفاده أنَّ ما من صراع إلا ونهايته الحلّ، بل بمعنى أنَّ بنية المجتمع والنظام السوريين، وميزان القوى الداخلي السوري، وحال القوى السياسية المعارضة السورية بعد عقود وحشية من القمع وتكسير العظام، وموقع سوريا الجيوسياسي كانت تحتّم جَعْلَ «الحلّ السياسي»، في مرحلة أولى على الأقلّ، إطاراً للصراع والثورة لا أفقاً لهما فحسب. وكان هذا يقتضي الحفاظ على سلمية الحراك مهما كان الثمن (ومن المؤكّد أن هذا الثمن كان ليبقى أقلّ بما لا يُقاس مما دُفِع إلى الآن) والحفاظ على طاقة السوريين الذين نزلوا إلى الشارع بعد عقود من الخرس ولو مقابل الفشل مرّات (ذلك الفشل الذي من المؤكّد أنه كان ليبقى أكثر نجاحاً من الكارثة التي نواجهها اليوم). وكان ذلك يقتضي مبادرة قوى المعارضة السورية لا إلى المشاركة في أيّ حوار تُدعى إليه مهما يكن، بل إلى الدعوة إلى ذلك هي نفسها، خصوصاً في بلد استولى فيه النظام على كلّ شيء وأدخلته الاحتجاجات في أزمة سياسية عميقة فرضت عليه إمّا بدء مسيرة التنازلات أو الحلّ العسكري. كان على مبادرات الحلّ السياسي المعارِضة أن تحمي الحراك الوليد لا أن تدفعه إلى الدمار. كان عليها أن تفاوض النظام، مثلاً، على استخدام الرصاص المطاطي (الذي يبدو أنّها لم تسمع به شأنها في ذلك شأن النظام) لا أن ترفض كلّ تفاوض ما لم يكن على تسليم السلطة. كان عليها أن تقيم الصلات بين تنظيماتها المحطمة الخارجة من المعتقلات والسوريين المحتجّين، لا أن تترك أمر الشارع لهواة بائسين تحركهم نوازع غرّة وتخدعهم صور «الجزيرة» عن سهولة إسقاط مبارك وقتل القذافي وحرق صالح، أو للتيارات الإسلامية وحلفائها من أدعياء اليسار، تلك التيارات وأولئك الحلفاء الذين اشتهروا بأنهم، إلى جانب النظام، مقبرة كلّ أمل في سوريا.
لم تسر الأمور على هذا النحو المرغوب، بالطبع. وبمرور الوقت كانت شروط «الحلّ السياسي» تزداد سوءاً بالنسبة إلى السوريين. وفي حين كان يمكن لهذا «الحلّ» في البداية أن يكون نقلةً على طريق سوريا ديموقراطية مدنية، ربما يكون اليوم خطوة نحو تقاسمٍ دولي وإقليمي للنفوذ، وتقاسم داخلي طائفي وإثني للسيطرة والأدوار، خصوصاً أنّ القوى الفاعلة في غالبيتها العظمى، خارجيةً وداخلية ـ من أوباما إلى بوتين، مروراً بطهران وتركيا والخليج، وصولاً إلى بعض قوى «هيئة التنسيق»، دع عنك كتبة الطائفية المستجدّين من بقايا «اليسار»، أقصد «يسار النصرة» ـ باتوا يرطنون بالمكوّنات الطائفية والإثنية كما يرطن المرء ببديهية لا تحتاج إلى نقاش. وفي ظلّ هذا كلّه، يبدو مستغرَباً في الحقيقة أنّ المعنيين الدوليين في الشأن السوري لا يزالون يدعون قوى سياسية حزبية ومدنية إلى المشاركة في الحوار والتفاوض. ولا نعلم إلى متى سيستمر هذا قبل إحلال ممثلين للطوائف والعشائر والإثنيات محلهم أو تحويلهم هم أنفسهم إلى هؤلاء الممثّلين، بما فيهم النظام.
يبدو أنّ صمود الدولة السورية في وجه كلّ قوى تفتيتها ـ من استبداد النظام وفساده وخياراته التي أنهكتها إلى تحطيم المعارضة العسكرية لها في كثير من الأماكن وارتباط معظم المعارضة وطائفيتها وتردادها رواية النظام ذاتها عن تطابقه مع الدولة ـ هو الذي لا يزال يبقي قيمةً للقوى السياسية والحزبية القديمة الهزيلة وللشخصيات السياسية على اختلاف أدائها. غير أنّ السؤال هو إلى متى ستقوى بــــقايا الدولة ـ الدولة التي أقامها الاستقلال والأنظمة الوطنية المتــــعاقبة قبل أن يبدأ الاستبداد الفاسد بنخرها وتحاول هذه الحــــرب الهدّامة أن تُجـــــهز عليها ـ إلى متى ستقــــوى على الصمود إزاء هذين الطرفين العاتيين وحلفائهما؟
كانت القوى الوطنية الديموقراطية، ممثّلةً بـ «هيئة التنسيق» والقوى والشخصيات القريبة منها، أبرز من رطن بـ «الحلّ السياسي» الوطني منذ البداية، وتستحق ممارستها النظرية والعملية لما نادت به أن تُتابع وتُفْحَص وتُنقَد، الأمر الذي لعلّه يكون مدار المقالة المقبلة.
-------------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 12-8-2015.