بغض النظر عن المفاوضات الإقليمية الجارية بخصوص تقاسم السلطة في سوريا وما يتداول بشأنها، فقد أصبح الأكراد رقماً فاعلاً في معادلة الصراع السورية مهما كانت نتيجة هذه المفاوضات وتفاصيلها. ومردّ ذلك أن التطورات على الأرض السورية، سمحت بتأسيس واستمرار منطقة إدارة محلية (منطقة حكم ذاتي فعلية) في المناطق ذات الأكثرية الكردية في سوريا؛ تلك التي يطلق عليها «روج آفا» أو «غرب كردستان». وتتشكل الأخيرة من مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، ويهيمن عليها «حزب الوحدة الديموقراطية» الكردي، أكبر الأحزاب الكردية نفوذاً في سوريا. ومنذ ذلك التأسيس، فقد أمكن رؤية ترابط موضوعي بين الصراع في سوريا وموقع الأكراد الملتبس فيه، وسياسات أنقره الكردية عموماً، وتكتيكات حكومة كردستان العراق، الأمر الذي يجعل الأكراد رقماً في المعادلات السورية والإقليمية لأول مرة منذ اتفاقية «سايكس ـ بيكو» الشهيرة قبل مئة عام.
الأكراد والحرب في سوريا
مع قيام الثورة السورية في العام 2011 وتحولها إلى حرب أهلية لاحقاً، فقد تغير الحضور الكردي في سوريا نوعياً. تاريخياً، تفرعت غالبية الأحزاب الكردية في سوريا من «الحزب الديموقراطي - كردستان سوريا» الذي تأسس في العام 1957، وبقيت هذه الأحزاب غير شرعية طيلة الفترة الممتدة منذ منتصف الخمسينيات وحتى العام 2011. لكن ذلك لم يمنع نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد من السماح بنشاطات «حزب العمال الكردستاني» في تركيا على الأراضي السورية، لموازنة المواقف التركية الضاغطة على دمشق ابتداء من تسعينيات القرن الماضي. من وقتها انضم أكراد سوريون كثر إلى هذا الحزب، وعند نفي زعيم الحزب عبد الله أوجلان من سوريا في العام 1998 بضغط تركي، فقد أسس أعضاء أكراد سوريون في الحزب السابق حزباً جديداً هو «حزب الوحدة الديموقراطي» في العام 2003. والحزب الأخير عضو في «اتحاد المجتمعات الكردية»، أي المظلة التنظيمية التي تجمع الأحزاب والمنظمات الكردية المتعاطفة مع «حزب العمال الكردستاني». عند اندلاع الحراك السوري كان «حزب الوحدة الديموقراطي» لاعباً ضمن آخرين، إلا أنه نجح بمرور الوقت عبر تكتيكات معقدة أن يصبح اللاعب الكردي الأول في سوريا، مستثمراً مواقفه الملتبسة حيال النظام والمعارضة السورية في آنٍ معاً. من ناحية، ساهم النظام السوري في ظهور «حزب الوحدة الديموقراطي»، الذي استولى على مناطق أخلاها النظام من دون قتال. ومن ناحية أخرى، لا يمكن اعتبار النظام و «حزب الوحدة الديموقراطي» حليفان دائمان، إذ يجمعهما فقط الاشتراك في عدو واحد: تركيا. هكذا
دخل الحزب أولاً إلى مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، عقب انسحاب قوات النظام السوري منها بهدف تفعيل التناقضات الكردية ـ التركية، وبالتالي موازنة الضغوط التركية، في تكرار لما تم في التسعينيات. ولكن السياق الإقليمي المتغير جعل الليلة تختلف كثيراً عن البارحة، فكان تأسيس منطقة «روج آفا» علامة فارقة في الحرب السورية والتوازنات في المنطقة.
الأكراد رقماً في المعادلة الإقليمية
يشكل الأكراد أكبر قومية في العالم (35 مليون نسمة) من دون دولة، حيث يتوزعون على تركيا وإيران والعراق وسوريا. استمر ذلك الوضع قائماً منذ اتفاقية «سايكس - بيكو» وحتى تأسيس «منطقة الحكم الذاتي» في كردستان العراق في العام 1992، تلك التي تم الاعتراف بها رسمياً في العراق في العام 2005. من وقتها عرف الطموح القومي الكردي نقلة نوعية، حيث تشكلت سابقة تتمثل في كيان كردي لأول مرة منذ مئة عام ـ مهما اختلفنا حول ملابسات قيامه وصلاحياته في الدستور العراقي. ومع نجاح أكراد سوريا في تأسيس «روج آفا» أو «غرب كردستان» نهاية العام 2013، فقد شهدت طموحات الأكراد مرحلتها النوعية الثانية. وجاء انتشار «تنظيم داعش» في العراق وسوريا وتوسّعه في مناطق الأكراد، ليظهر الحضور الكردي في المعادلات السورية أكثر فأكثر، حيث استدعت صورة المقاتلات الكرديات في مواجهة التنظيم الإرهابي في معركة عين العرب/كوباني تعاطفاً إقليمياً ودولياً غير مسبوق مع الأكراد. ومع امتناع تركيا عن تقديم يد المساعدة إلى الأكراد المحاصرين في البداية، فقد أضطرت أنقره لاحقاً بضغط أميركي إلى السماح لمقاتلين من «البيشمركة» التابعة لأكراد العراق بالدخول إلى كوباني عبر الأراضي التركية، مدشنة ـ من حيث لم تحتسب ـ رابطاً موضوعياً بين الأكراد في العراق وسوريا وتركيا. ومع فوز «حزب الشعوب الديموقراطي الكردي» بنحو ثمانين مقعداً في البرلمان التركي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2015، وتخطي حزب كردي لحاجز العشرة في المئة اللازمة للتمثل بالــبرلمان لأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية، يعتقد كثير من الأكراد في المنطقة أن اللحظة قد حانت لقطف ثمار نضالاتهم في القرن الأخير.
تركيا وسوريا والأكراد
تعطي الجغرافيا ثقلاً خاصاً لتركيا في حومة الصراع في سوريا ومع الأكراد فيها، حيث تقع المناطق الكردية في سوريا على الحدود الطويلة مع تركيا والبالغة تسعمئة كيلومتر، وعلى جانبي الحدود يقطن أكراد ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم شعباً واحداً.
على هذا الأساس، تعد سياسة تركيا حيال أكراد سوريا جزءاً من سياساتها الكردية العامة، لذلك ينظر في أنقره إلى «حزب الوحدة الديموقراطي» في سوريا باعتباره تهديداً مباشراً لتركيا ووحدة أراضيها. وتزداد المخاوف التركية بملاحظة الارتباط بين الحزب الكردي السوري المسيطر على «روج آفا» و «حزب العمال الكردستاني»، ما يجعل الأخير لاعباً إقليمياً وليس محلياً تركياً فقط. لهذا لم تحسن تركيا علاقاتها مع «حزب الوحدة الديموقراطي» في سوريا، حتى وهي تخوض مفاوضاتها مع «حزب العمال الكردستاني» في تركيا خلال السنتين الأخيرتين. وتشكل منطقة الإدارة الذاتية الكردية أو «روج آفا» التنفيذ العملي لأفكار أوجلان في «منطقة حكم ذاتي ديموقراطية» في تركيا، على اعتبار أن «الرأسمالية كنظام قد فشلت وأن نظاما مباشرا من حكومة شعبية هو الحل الأفضل» من منظور أوجلان؛ لذلك يحظى مشروع «روج آفا» بأهمية استثنائية لدى أكراد تركيا. تتهم أنقره الحزب بالتعاون مع النظام السوري، وفي الوقت ذاته تدبر لإنشاء «منطقة عازلة» داخل الأراضي السورية بحيث تُقسم مناطق الأكراد في سوريا ويُمنع الارتباط الجغرافي فيما بينها. ورشح عن الاتفاق التركي ـ الأميركي بخصوص مثل هذه المنطقة في إطار «الحرب على داعش»، أن مقاتلين من المعارضة السورية سيتم إدخالهم جواً وعبر الأراضي التركية إلى هذه المنطقة، وبما يستجيب لتخوفات تركيا. وبرغم ذلك، فلا يمكن منطـــقياً استبعاد الحزب من ترتيبات التسوية السورية، بسبب سيطرته الفعلية على الأرض التي تسبق حتى شرعيته التمثيلية للأكراد.
تشرذم الأحزاب الكردية كابحاً مثل أخوتهم العرب، يعرف الأكراد وأحزابهم في المنطقة تشرذماً واضحاً، سواء بسبب الخلافات الفكرية أو بسبب التأثيرات الإقليمية وأجنداتها. فمن المعروف أن «حزب الوحدة الديموقراطي» له خصومة مع الأحزاب الكردية الأخرى الممثلة في «المجلس الوطني الكردي» في سوريا، الذي يضم أحزاباً كردية صغيرة غير عاملة على الأرض في سوريا، والذي تأسس بتأثير واضح من حكومة كردستان العراق والسيد مسعود البارزاني. جرت مفاوضات كثيرة بين الطرفين الكرديين، وتم توقيع «اتفاق دهوك» في تشرين أول في الـــعام 2014 للمصالحة بين الطرفين، لكنه لم ينفذ بالكامل حتى الآن. وعلى الصعيد الكردي ـ الإقليمي يستعر الخلاف بين حكومة كردستان العراق المتحالفة مع تركيا من ناحية، و «حزب العمال الكردستاني» وتحالفاته الكردية من ناحية أخرى لأسباب ثلاثة. أولها أن استراتيجية السيد مسعود البارزاني تقوم على تثبيت «كردستان العراق أولاً» وجني اعتراف إقليمي ودولي بها، بينما سياسات «حزب العمال الكردستاني» المغامرة وتحصنه في جبال قنديل الواقعة شمال العراق يهدد بنسف نجاحات الأكراد في العراق. وثانـــيها أن حكومة كردستان العراق تصدر النفط عبر تركيا بعيداً عن حكومة بغداد المركزية، وتودع العوائد في المصارف التركية وتعتمد عليها في توسيع بنيتها التحتية، لذلك تركيا هي حليف استراتيجي وليس خصماً لها. وثالثها أن طفور «حزب الوحدة الديموقراطي» في سوريا يهدد توازنات القوى الكردية في المنطقة لغير مصلحة السيد مسعود البارزاني. يقول التقدير الموضوعي للأوزان إن هناك كوابح لتأثير الأكراد، لولاها لكان حضورهم أكبر في المعادلات الإقليمية، مثل تشرذم أحزابهم والتدخل المستمر لقوى إقليمية وازنة مثل تركيا خوفاً على وحدة أراضيها. وبرغم ذلك، يمكن القول بإن حضور الأكراد في المعادلات السورية والإقليمية قد أصبح راهناً حقيقة على الأرض!
---------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، الإثنين، 10/8/2015.