المزاج السائد لدى الرأى العام فى مصر هو الاستسلام لما تروجه الصحافة وقنوات التليفزيون عن أوضاع الإقليم المحيط بنا، فهناك دول صديقة فى المقدمة منها المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة والكويت، وهناك دول معادية فى مقدمتها قطر وتركيا، وهناك دول معادية أخرى ولكنها فى حالة عداء ساكن، أى لا تقوم فى الوقت الحاضر بأى نشاط فعلى مباشر ضد المصالح المصرية، ويفضل الرأى العام تحت تأثير الصحافة وقنوات التلفزيون الاكتفاء بهذه الصور النمطية عن دول الإقليم، فهذا أدعى إلى الراحة وعدم وجع الدماغ. ولكن هذه الصور النمطية لا تمكن الرأى العام من تفسير ما يجرى حولنا فى الإقليم وحوله، فلماذا سارعت الدول الكبرى فى العالم، تلك الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن ومعها ألمانيا إلى إبرام هذا الاتفاق؟ والذى يقال إنه يتضمن اعترافا لإيران بدور إقليمى بارز؟ ألا تضم هذه الدول الست دولا نعتبرها أصدقاء لنا مثل فرنسا وألمانيا وروسيا والصين؟ دعوكم من الولايات المتحدة فنحن لا نعرف حقيقة إذا كانت صديقة لنا أم عدوا، هى تقدم لنا معونة عسكرية سنوية يقول خبراء العلاقات الدولية إنها لا تقدم فى العادة إلا لدول حليفة أو صديقة، ومع ذلك فبعض المتحدثين فى قنوات التليفزيون وكتاب الأعمدة فى صحفنا يصرون على أنها وراء كل الكوارث المحدقة بنا. هل تحالفت كل هذه الدول ضدنا بإبرامها هذا الاتفاق النووى مع إيران؟ ما هى القصة وراء كل ذلك؟
تفسير ما جرى فى فيينا منذ أسبوعين يتضمن بعض الحقائق المزعجة التى قد تدعونا إلى العدول عن بعض المسلمات التى استرحنا إليها عن أوضاعنا الإقليمية والتخلى عن التصور السلبى لإيران مما قد يفتح الباب أمام انتهاج سياسات مغايرة تجاهها بدلا من هذا الوضع المثير للسخرية فى علاقتنا معها، حيث تقيم أكثر الدول خوفا من نفوذها الإقليمى وهى المملكة العربية السعودية علاقات كاملة معها بينما نحن رسميا نرفض حتى التفكير فى استئناف علاقات طبيعية معها، بل وقسم من الرأى العام لدينا لا يريد حتى قدوم سياح إيرانيين لبلادنا، ولكن لا يرى غضاضة فى تدفق مئات الآلاف من الإسرائيليين على سيناء، وكثيرون منهم بلا تأشيرة دخول.
مهمة أمثالى ممن يكسبون قوتهم بالبحث والتدريس فى العلوم السياسية هى ازعاج القارئات والقراء بالتنبيه لما جد فى العالم من تطورات، وبطرح الأسئلة حول كل الاحتمالات، ومهمة من يحيطون بصناع القرار، إن كانوا يثقلون على أنفسهم بقراءة مثل هذه المقالات، أن يفكروا فى التداعيات السياسية لما تعرضه، وأن يقدموا لصانع القرار أنسب البدائل لتحقيق المصلحة القومية التى يفترض أنه يستهدى بها.
ما هى إذن تلك الحقائق المزعجة؟
أولها أن الاتفاق النووى مع إيران هو الترجمة الدقيقة فى الشرق الأوسط لنظام عالمى جديد لا تنفرد فيه دولة واحدة أو مجموعة محددة من الدول بالسيطرة عليه، هو ترجمة لانتشار القوة فى النظام العالمى وعدم تركزها فى مجموعة محددة من الدول أو فى إقليم معين. الدول الكبرى خارج الإقليم شاءت أن تعترف بصعود قوة إقليمية فى الشرق الأوسط، وأن تبرم معها صفقة مرضية للطرفين، تتنازل بمقتضاها إيران مؤقتا عما نسب إليها من رغبة فى امتلاك السلاح النووى مقابل تطبيع شبه كامل لعلاقاتها مع الدول الغربية تحديدا لتتساوى فى ذلك بعلاقاتها مع كل من روسيا والصين. وهذه الدول لا تعترف بإيران كمجرد دولة فى الشرق الأوسط ولكن باعتبارها أهم دولة فيه.
الحقيقة المزعجة الثانية هى أن هذه المكانة المتميزة التى بلغتها إيران خصما من نفوذ الدول الأخرى التى تنافسها فى الشرق الأوسط، وهى كل من إسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية، لم تكن مجرد نتيجة لما يقال عن مكر الدبلوماسية الإيرانية ومهارتها فى التعامل مع تلك الدول الكبرى خارج الإقليم، وهى قدرات يقال إن الإيرانيين اكتسبوها من مؤسسة البازار البارعة فى فن المساومة، ولكنها نتيجة لتقدم إيران أولا فى مجال البحث العلمى الذى قفز بها إلى المكانة السابعة عشر فى مجال حجم الإنتاج العلمى المنشور دوليا والذى جعلها تسبق كل دول العالم من حيث معدل الزيادة فى الإنتاج العلمى المعترف به فى دوريات علمية دولية محل ثقة. هذا التقدم العلمى الذى انعكس فى مجالات الطاقة النوية وإنتاج الصواريخ وإطلاق أقمار صناعية. ويستند هذا التقدم العلمى إلى تقدم فى مجال التنمية الإنسانية، والتى قفزت فيها إيران من المرتبة الرابعة والتسعين فى سنة 1990 بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية إلى المكانة الخامسة والسبعين فى سنة 2013 بينما سارت مصر مثلا فى الاتجاه المضاد فتدهور وضعها خلال نفس الفترة من الخامس والتسعين إلى العاشر بعد المائة، وارتفع مستوى سنوات التعليم للمواطنين الإيرانيين من ثمانى سنوات تقريبا ليصبح خمس عشرة سنة لمن هم فى سن الدراسة فى الوقت الحاضر. كما يقترب ما تخصصه إيران للبحث العلمى والتطوير من 4% سنويا وللتعليم من 7% من ناتجها المحلى الإجمالى. طبعا ساعد إيران فى هذا الصدد ارتفاع أسعار النفط فى الأسواق الدولية حتى العام الأخير، ولكن كان هذا هو الحال فى العديد من الدول العربية المصدرة له، ولكن لم تنعكس دخولها المتزايدة من النفط فى تلك السنوات على أى تقدم ملحوظ لها فى مجال الإنتاج العلمى.
الحقيقة المزعجة الثالثة هى أن نمو النفوذ الإيرانى فى الشرق الأوسط لا يتعارض بالضرورة مع مصالح الدول الكبرى خارج الإقليم. طبعا كل من روسيا والصين تؤيدان عموما سياسات إيران الإقليمية، ولكن الولايات المتحدة تنسق عن بعد مع قوات الحرس الثورى الإيرانى التى تساعد القوات العراقية فى الحرب ضد تنظيم داعش فى وسط العراق، ولم تعد الولايات المتحدة تعارض فى استمرار بشار الأسد كأحد عناصر تسوية الأزمة السورية، وهو بكل تأكيد أفضل لديها من كل القوى الإسلامية التى تعارضه وخصوصا داعش، ولذلك لا تبدى معارضة شديدة للدعم الذى تقدمه إيران وحليفها حزب الله لنظام الأسد، ولا تبدى الولايات المتحدة كذلك تبرما شديدا بما يقوم به الحوثيون فى اليمن، هم أفضل من تنظيم القاعدة الذى مازال يعتبر أن العدو البعيد ــ الولايات المتحدة ــ أهم من العدو القريب ــ أى النظم القائمة فى الدول الإسلامية التى لا تهتدى بتعاليم الإسلام كما يراه أيمن الظواهرى. وعلى عكس كل خطاب القيادة الإيرانية لا توجد لدى إيران أى نوايا لمهاجمة إسرائيل إلا إذا بدأت إسرائيل بالعدوان.
وأخيرا فالنظام الإيرانى يبدو مستقرا والسوق الإيرانية سوق واسعة لقرابة ثمانين مليون مواطن، وحاجة إيران للتكنولوجيا المتقدمة هائلة فى كل المجالات، ولذلك كانت ردود الفعل الأولى على إبرام الإتفاق النوى هى زيارة المستشار إنجيلا ميركل ومعها وفد كبير من ممثلى الشركات الألمانية لطهران، كما سيصل وزير الخارجية الفرنسى قريبا إلى العاصمة الإيرانية لأغراض مشابهة، وكل ذلك يعكس التطلع للاستفادة من مزايا إقامة علاقات اقتصادية وثيقة مع إيران.
ومع ذلك فليست كل الأمور وردية لنظام آيات الله فى إيران، كان التقدم العلمى فى الاتحاد السوفيتى السابق مبهرا، ولكنه انعكس أساسا فى المجال العسكرى ولم يكن له صدى كبير على أحوال الاقتصاد السوفيتى عموما ولا على مستوى معيشة المواطنين السوفيت، وكان ذلك سببا مهما لانهيار الاتحاد السوفيتى، ولذلك يواجه نظام آيات الله نفس التحدى، فالتقدم العلمى الإيرانى لا يكاد يكون له صدى خارج المجال العسكرى، ولا تقدر الصناعة المدنية الإيرانية على المنافسة خارج أسواق إيران، ولذلك فمع استهلاك الأرصدة الإيرانية التى سيفرج عنها بموجب الاتفاق النووى والانخفاض المستمر المتوقع فى أسعار النفط وتطلع شباب وشابات إيران لمزيد من الحريات المدنية والسياسية، فإن نظام آيات الله ما لم ينجح فى مواجهة هذه التحديات، فقد يعرف مصيرا مشابها لمصير الاتحاد السوفيتى وهو التحلل من الداخل، ولعل ذلك قد يكون واحدا من حسابات أوباما فى المهلة التى منحها هذا الاتفاق النووى لإيران أى خمس عشرة سنة قبل أن تتحرر إيران منه وتبقى ملتزمة بمعاهداتها الدولية الأخرى.
ولكن أين نحن فى مصر من هذا كله؟ لا أعرف فلست قريبا من دوائر صنع القرار، ولا أعرف ولا أظن أن كثيرين غيرى يعرفون، ولكن طبعا مصر أم الدنيا فى عيوننا، أما فى عيون العالم فأذكركم بما جاء فى مقدمة هذا المقال عن أحوال التنمية الإنسانية فى مصر.
-----------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الإثنين، 27/7/2015.