قبل أقل من شهر، تم توقيف نحو ثلاثمائة مهاجر غير شرعى من أصول أفريقية، وظلوا عالقين على الحدود بين إيطاليا وفرنسا لأيام وليالٍ. وعندما ذاع الخبر، تظاهر ضدهم شباب ينتمون لليمين المتطرف الفرنسى، تحديدا إلى مجموعة «جيل الهوية» التى تطالب بترحيل المسلمين من أوروبا وتناهض تواجد المهاجرين على الأراضى الفرنسية بصفة عامة. رفع هؤلاء الشباب لافتة كتب عليها «أوروبا ليست وطنا لكم، لا محالة»، أى لا تحلمون بالدخول إلى فرنسا لتنطلقوا منها إلى هولندا أو إنجلترا، كما تريدون. ساد الموقف حالة من الهرج والمرج تمكن خلالها نصف المهاجرين من الهرب، فى حين جلس الباقون أمام الشاطئ فى انتظار ترحيلهم أو المجهول.
المشهد ليس بجديد، لكن تواجد شباب «كتلة الهوية» على الحدود كان هو البعد اللافت، رغم تواضع عددهم، وقد واكب ذلك حشد كبير على الإنترنت كعادة هذه المجموعات اليمينية الصغيرة، التى تستهدف رسائلها الشباب القابع خلف أجهزة الكمبيوتر، فعلم الاتصال هو سلاحها الأهم لنشر أفكارها واجتذاب المزيد من الأنصار. الشعار الذى سجل على اللافتة، اقتبس من الحملة الأسترالية ضد الهجرة غير الشرعية، والتى نجحت بالفعل فى وضع حد لهذه الظاهرة، وكأن الشباب يستدعون التجربة الأسترالية، لمطالبة مسئولى بلادهم بمزيد من الحسم، فالأجانب الذين ينتمون لغير أوروبا غير مرحب بهم، لاختلاف فى الثقافة والدين والعرق، وهو ما يهدد هويتهم بشكل لا يقبلونه رغم صغر سنهم، فمعظم أعضاء الكتلة فى العشرينات، أما أكبر قادتها ففى بداية الأربعينات.
هذه هى وجهة النظر التى يعبرون عنها دون استحياء من خلال آراء ومواقف واضحة، فتارة يستهدفون مسجدا تحت الإنشاء بمدينة بواتيه ويحتلون أعلى المبنى، وتارة أخرى يقررون أن يساعدوا قوات الشرطة فى حفظ الأمن بواسطة «ميلشيات» من المتطوعين السلميين داخل عربات المترو السريع بمدينة «ليل»، بهدف حماية المواطنين ممن أطلقوا عليهم وصف «حثالة المجتمع»، وبالطبع المقصود هنا ذوى البشرة الداكنة والأصول غير الأوروبية. ومرة ثالثة يسيطرون على جزء من مقر الحزب الاشتراكى فى شارع دى سولفرينو بباريس أو يتظاهرون ضد شراء قطر العديد من الممتلكات داخل فرنسا، إلى ما غير ذلك من الأحداث التى تطمح إلى لفت الانتباه، وإيصال صوتهم لوسائل الإعلام، ومنها لجمهور أوسع على المدى الطويل، فطموح الحركة ليس إنشاء حزب جماهيرى، لكن نشر مبادئ وأفكار بين الناس، وهو ما يشيرون إليه بتعبير «العمل على ما وراء السياسة».
هذه الحركة التى ظهرت فى بداية الألفية الثانية، بعد حل جماعة أخرى من اليمين المتطرف «الوحدة الراديكالية»، «على خلفية محاولة أحد أفرادها اغتيال الرئيس السابق جاك شيراك فى 14 يوليو 2002»، اتخذت لنفسها شكلا غير مركزى حتى لا تكون عرضة للحل هى الأخرى. لذا فالكتلة تضم مجموعات صغيرة من الناشطين، تعمل كل منها بصورة مستقلة داخل نطاقها الجغرافى، وكأننا بصدد نظام كونفدرالى. هم متعصبون لانتمائهم الجغرافى المحلى الفرنسى الأوروبى الأبيض، على اعتبار أنهم السكان الأصليون للقارة، ما يعكس شعورا حادا بعدم الأمان الثقافى. قد يكون هناك بالفعل ما يغذيه واقعيا، سواء صعوبة الظرف الاقتصادى وتضاءل الفرص، وقد يكون مجرد شعور مصطنع من وحى الخيال. مجرد وهم ينميه اللاعبون السياسيون، ولو دون مباشرة أو قصد، لكن هو شعور موجود بالفعل ومتنامٍ بطبيعة الحال، حتى لو قال البعض إن هذه الكتلة بكل تفريعاتها لا يتجاوز عدد أعضائها الرسميين بضعة آلاف، بل ألفى شخص وفقا لتقديرات سنة 2013. هذا لا يمنع حقيقة انتشار مريدى هذه الأفكار فى أوروبا، ووجود «كتل هوية» أخرى فى سويسرا وبلجيكا والبرتغال مثلا. كما لا يمنع أن هناك على أرض الواقع ما يغذى الشعور بعدم الأمان الثقافى، فتكون ردة الفعل هى الانكماش والرغبة فى التقوقع على الذات. أحيانا يكون مجرد التأكيد على حقوق الأقليات أو التأكيد على ضرورة الحفاظ على التنوع الثقافى داخل المجتمع، سببا لعدم شعور البعض بالأمان. أيضا تساعد العولمة قطعا فى تأجيج هذا الشعور: الخوف من فقدان العمل بسبب لجوء الشركات العالمية إلى أيدى عاملة أرخص فى بلدان فقيرة، الخوف من احتلال المهاجرين لأوروبا، الخوف من ضياع العادات والتقاليد المحلية فى ظل غزو ثقافى و«أمركة» عالمية، ببساطة هناك الخوف بكل تجلياته. ما يجعل كل هذه المجموعات اليمينية الصغيرة التابعة لكتلة الهوية أو لجناحها الشاب «جيل الهوية» تنادى بعودة المهاجرين إلى ديارهم الأصلية، ولو بعد حين.
لا يؤيدون خروج اليونان من مجموعة اليورو، لأن الحل بالنسبة لهم بالضرورة أوروبى، ولا يجب الإتيان بما قد يضعف كيان الاتحاد الأوروبى. بل للمحافظة على كل ما هو أوروبى يذهب هؤلاء الشباب المتعلم، الذى ينتمى معظمه للطبقة الوسطى، إلى ما هو أبعد من المجاهرة بالآراء، هم يجتمعون مرة فى السنة كل صيف، فى معسكر لمدة أسبوع على الأقل، ليقوموا بتدريبات وتوعية شبيهة بمعسكرات الكشافة لدى تنظيم الإخوان المسلمين: تمرينات بدنية، ملاكمة، تنشئة سياسية، أغنيات، وتعلم كيفية التواصل مع وسائل الإعلام وصياغة البيانات الصحفية. مهارات لها دورها فى المراحل المختلفة، فالحركة لم تزل فى مرحلة الإعلان عن نفسها، وما يميزها فى نظر الشباب المشاركين فيها أنهم يجدون مجالا لتوظيف مواهبهم من خلالها، فهى ليست كالكيانات العتيقة ذات التراتبية الصارمة والتى يسيطر عليها وجوه بعينها منذ الأزل. المنتسبون لجيل الهوية يتشبهون بأبطال فيلم «300» الشهير، حين يتصدى 300 مقاتل يونانى لجيش جرار، يضم مليونا من جنود الفرس أراد أن يغزو أوروبا!
--------------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأحد، 12/7/2015.