ليست جديدة فى جوهرها الأزمة التى انفجرت داخل حزب الوفد فى الأسابيع الأخيرة. فهى فصل من فصول أزمة ممتدة أخذت أشكالاً مختلفة من مرحلة إلى أخرى، ولكن جوهرها ظل مرتبطاً بافتقاد الطابع المؤسسى فى بناء الحزب وإدارته.
ولذلك لم يتمكن الوفد من الحفاظ على الزخم الذى واكب تأسيسه فى لحظة كان قطاع واسع من المصريين يتطلع فيها إلى تعدد حزبى وسياسى بعد أن وصل النظام الأحادى إلى نهاية الطريق المسدود.
فقد وجد اسم الوفد إقبالا واسعاً عليه فور إعلان تأسيسه عقب محاضرة ألقاها الزعيم الراحل فؤاد سراج الدين فى نقابة المحامين بمناسبة ذكرى رحيل زعيميه التاريخيين سعد زغلول ومصطفى النحاس فى أغسطس 1977.
ورغم أن الفرصة كانت مواتية لبناء حزب قوى على أساس مؤسسى، فقد أدت مكانة سراج الدين لدى قدامى الوفديين، وانبهار الجدد منهم به، إلى إضفاء طابع فردى عليه. وبدا أن الوفد هو سراج الدين. ولذلك فعندما قلق الرئيس الراحل أنور السادات من شعبية الوفد، وتحركت غريزته السلطوية لمحاصرته، اختار أن يوجه قذائفه الثقيلة ضد شخص سراج الدين، بدءاً بمحاولة تنفير البسطاء منه بدعوى أنه «وُلد وفى فمه ملعقة ذهب»، ووصولاً إلى إصدار قانون لعزله سياسياً مع عدد صغير من الوفديين القدامى.
ولما كان الحزب الناشئ قد ارتبط بشخص الزعيم ارتباطاً وجودياً، فقد قرر تجميد نشاطه كلياً حين صار هذا الزعيم معزولاً. ولم يعد الوفد إلى الحياة السياسية إلا بعد إلغاء القانون الذى عزل زعيمه. وما كان للوفد أن يسلك ذلك المسلك لو أنه بُنى على أساس مؤسسى.
ورغم كل فضائل فؤاد سراج الدين، فقد بلغت حالة اختزال الحزب فى شخصه مبلغاً فريداً عندما تم إقرار لائحة داخلية كان مؤداها – فعلياً – بقاء رئيسه فى موقعه إلى أن يشاء الله، أو يشاء هو0 وما أن اشتد المرض عليه فى أواخر التسعينات، حتى أُصيب الوفد بجمود وصل إلى حد الشلل فى بعض الأحيان. وعندما رحل عام 2000، أخذ التراجع الذى حدث فى أداء الحزب منذ أن قاطع انتخابات 1990 يتحول إلى تدهور فى ظل محاولة د. نعمان جمعة إعادة إنتاج الصيغة الفردية فى إدارة الحزب بدون امتلاك مقوماتها.
لم يكن لدى جمعة أى من سمات سراج الدين القيادية. ولذلك لجأ إلى البطش والطغيان فى المواقف التى كان سلفه يتعامل مع مثلها بحكمة عبر الإقناع والاحتواء، مستخدماً مكانته ومحبة الوفديين له. وظل جمعة يناور بشأن تعديل اللائحة الداخلية رغم أنه انتُخب على أساس وثيقة تعهد فيها بهذا التعديل.
ولذلك، لم يمض عامان حتى أخذت أزمة الحزب فى التفاقم مع توالى القرارات الفردية العشوائية وتتابع إجراءات البطش. وعندما تمادى جمعة فى هذا الاتجاه عقب هزيمته فى «انتخابات» الرئاسة الشكلية فى 2005، كان الكيل قد فاض بكثير من قادة الحزب الذين نجوا من مقصلة الفصل. ورغم أن التدهور الذى حدث فى الحزب أبعد بعض شبابه عنه، فقد لعب الباقون منهم دوراً تاريخياً فى إطاحة نعمان جمعة عبر انتفاضة أُصيب بعضهم فيها برصاص أنصاره.
كان لدى هؤلاء الشباب حلم. فقد حلموا بإصلاح الحزب وإعادة بنائه على قواعد مؤسسية. وكانت الفرصة مواتية بالفعل لهذا الإصلاح عقب تولى محمود أباظة رئاسة الوفد. ولكن الحلم بانتهاء الإدارة الفردية اصطدم بتنامى النزعة الشللية. وقد بدأ الاتجاه إلى الإدارة الشللية بإقصاء د. السيد البدوى من موقع السكرتير العام وإحلال منير عبدالنور محله. ولم يستمع أباظة إلى نصح بعض القريبين منه حينئذ، ومنهم كاتب السطور، بوضع حد للاعتماد على مجموعة معينة أغرقت الحزب فى دائرة الشللية، وهو لم يكد يخرج من حالة الإدارة الفردية.
وفى تلك الظروف، آثر من أدركوا أن الحزب يتجه إلى طريق مسدود مرة أخرى أن يبتعدوا، فى الوقت الذى انقسم الحزب بين فريقين تنافسا فى انتخابات 2010 الداخلية التى فاز فيها البدوى على أباظة بدعم كامل من فؤاد بدراوى. وكانت هذه فرصة أخرى لإنقاذ الوفد. لكن البدوى وبدراوى لم يمتلكا إرادة الإصلاح المؤسسى، فاستمرت الشللية إلى أن أصابت الفريق الذى كان موحدا فى انتخابات 2010 الداخلية، فانقسم إلى شلتين فى انتخابات 2014 التى فاز فيها البدوى على بدراوى.
ومن أخطر آفات الشللية فى الأحزاب أنها تُفَّرغ الانتخابات من مضمونها مهما كانت إجراءاتها صحيحة. ولذلك لم تنه انتخابات 2014، مثلها مثل انتخابات 2010، الأزمة الداخلية التى استمرت مع تغير أطرافها. ومن أمراض الشللية أيضا أنها تجعل رئيس الحزب خاضعاً لمجموعة تحيطه من كل ناحية، وتدفعه إلى التصعيد ضد معارضيه بدلاً من الحوار معهم.
وهذه هى مشكلة البدوى الآن حين يضطر إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية لا تنسجم مع طبيعته التى يعرفها كل من تعامل معه.
وهكذا دخلت أزمة الوفد مرحلة تتطلب حلاً غير تقليدى. ويمكن أن تكون فكرة المجلس الرئاسى التى اقترحها المهندس صلاح دياب بداية هذا الحل، مع تعديلها بحيث يكون هذا المجلس برئاسة البدوى بوصفه رئيساً شرعياً للحزب، وأن يختار هو نصف أعضائه بينما يرشح معارضوه النصف الثانى، على أن يكون هؤلاء الأعضاء مؤمنين بأهمية الوفد ودوره ومحايدين بشأن الصراع الراهن عليه. وتقتصر مهمة هذا المجلس على إجراء مصالحات تاريخية بين الفرقاء الحاليين وغيرهم، ووضع القواعد اللازمة لبناء حزب مؤسسى قادر على استعادة دور الوفد فى لحظة تشتد فيها الحاجة إليه. فهل بقى مجال للعقل فى أزمة الوفد؟
--------------------------------------
* نقلا عن المصري اليوم، الخميس، 14/5/2015.