يثير الحديث عن الليبرالية- في ظل أحداث التغيير والتحولات الكبرى في المجتمعات -العديد من الإشكاليات، منها: اختزال الليبرالية في مجالات بعينها، مثل السياسة دون باقي المجالات، والتجاذب بين الليبرالية والأصولية، والصراع داخل الليبرالية نفسها بين ليبرالية اجتماعية وليبرالية جديدة، ذات أصول فلسفية أصولية، إضافة إلى أزمة الليبرالية في العالم العربي.
في هذا الإطار، عقد المجلس المصري للشئون الخارجية حلقة نقاشية حول كتاب "الليبرالية: نشأتها وتحولاتها وأزمتها في مصر" بحضور مؤلف الكتاب، الدكتور وحيد عبد المجيد، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، تحت رعاية السفير محمد شاكر، رئيس مجلس إدارة المجلس، والسفير أيمن شلبي، مدير المجلس، بمشاركة نخبة من المفكرين والسياسيين.
إشكالية التجاذب بين الليبرالية والأصولية:
بدأ السفير الدكتور محمد شاكر، رئيس مجلس إدارة المجلس، أعمال الندوة، متنبئًا بالدور الكبير الذي سوف تلعبه الليبرالية في المرحلة القادمة، بحيث تصبح الاتجاه الغالب والأقرب للفكر القادم، بحسبانها الأسهل في الفهم والمتابعة والتبني.
ومن جانبه، أثنى السفير أمين شلبي، مدير المجلس، على الكتاب موضوع الحلقة، معتبرًا إياه إضافة فكرية مهمة صدرت في فترة زمنية تعاني عملية تشويش حول الفكر الليبرالي، والخلط بين الليبرالية وتيارات فكرية وأيديولوجية أخرى، موضحًا أننا أمام حالة من الصراع الفكري، تمثل الليبرالية أحد أطرافها.
ونوه شلبي إلى أن أهم ما يعنينا اليوم هو واقع الليبرالية في المجتمع المصري اليوم، مؤكدًا أن الفكر الليبرالي ليس بالجديد في مصر، وإنما يعود إلى القرن الـ 19 منذ رحلة المفكر "رفاعة رافع الطهطاوي" إلى باريس، واحتكاكه بالحضارة والقيم الغربية، ومن ثم تعرفه بالليبرالية وتبنيه لها. وأشار إلى أن المتابع لكتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" يدرك أنه رغم تبني الطهطاوي لقيم الفكر الليبرالي، مثل احترام الفرد والحريات وحقوق الإنسان، فإنه لم ينس، ولم يتجاوز أصوله وتراثه الديني والفكري. وكان لذلك التوجه امتداد في الجيل الذي تبعه، مثل "طه حسين"، و "توفيق الحكيم"، فاتصلوا بالحضارة الغربية ومجتمعاتها، وتبنوا القيم الغربية، لكن حدثت لهم حالة من الصراع بين ما تبنوه وتراثهم الذي نشأوا عليه.
وأضاف شلبي أن هذا التجاذب بين القيم الليبرالية والتراثية لا يزال قائمًا حتى اليوم. ومن الضروري أن تلتفت النخب لحل هذه الإشكالية، متصورًا أن الحل يكمن في سيادة ما يسمى بالتنوير والتعليم اللذين يخلقان بيئة ومناخًا أكثر تفاعلًا مع قيم الليبرالية المتمثلة في احترام العقل والفكر وحقوق الإنسان.
نشأة الفكر الليبرالي:
وفي بداية حديثه، نوه الدكتور وحيد عبد المجيد، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، ومؤلف الكتاب، إلى حقيقة مفادها أن الكتاب لا يتعرض لليبرالية من منظور سياسي، وإنما يناقش الفكرة والهدف الأساسي منها، لوضع النقاط على الحروف، وإيجاد منفذ للخروج من حالة الاختلاط والارتباك الفكري السائد في المجتمع، وما يقترن به من سطحية شديدة لدى معظم الأجيال الجديدة، مؤكدًا وجود حالة من انعدام المعرفة التام بمسألة الفكر الفلسفي، وعلاقته بالواقع.
وأوضح عبد المجيد أن موضوع الليبرالية دائمًا ما يساء فهمه وتأويله على مدى قرنين من الزمان، لافتًا إلى أن الليبرالية تعد رافدًا من روافد الفكر الإنساني الحديث الذي صنفه إلى نوعين رئيسيين:
أفكار تراثية: وتتضمن الموروثات المجتمعية من عادات وتقاليد، ومعتقدات تحتكر توجيه العقل، وتحدد ما الذي ينبغي أن يدخل هذا العقل، وما لا يدخله.
أفكار حديثة: وهي ابنة العصر الحديث، ويعد العقل هو جوهر الانتقال إلى هذا العصر، من خلال إدراكه لقيمته وقدرته، بعد أن ظل أسيرًا على مدى تاريخ الإنسانية. فارتبطت معطيات العصر الحديث بانطلاق العقل في الفكر، والفن، والأدب، والعلم، في ظل قيود هائلة كانت تمنعه من التفكير خارج نطاق اليقينيات، وكانت المعركة الأكثر شهرة هي معركة الكون، وما الذي يحدث فيه، واكتشاف علم الفلك، والمعاناة الشديدة التي عاناها المفكرون في هذا المجال.
وصنف دكتور وحيد الأفكار الحديثة إلى نوعين أيضًا، الأول يدور حول ما يسمى بفكرة الخلاص، حيث يظل الناس يتطلعون إلى من يخلصهم من مشاكلهم، سواء كان المخلص شخصًا، أو نظرية، أو عقيدة، أو حزبا. أما النوع الآخر، فيقوم على مفهوم الحرية، وأن الإنسان الحر يستطيع تخليص نفسه من المشاكل، وتحقيق ما يريده. ولفت إلى أن الليبرالية هي أهم روافد النوع الثاني من الأفكار. فبينما تقوم الماركسية على فكرة أن خلاص البشرية يكون من خلال منظومة معينة مرتبطة بحزب أو قائد محدد؛ تعتمد الليبرالية على الفكر، وتحرير العقل لتكون العلاقات بين الناس قائمة على الحرية، وليس في إطار منظومة معينة أو نخبة تمتلك أساس هذه النظرية. وبالتالي، فالليبرالية نسق مفتوح بلا نهاية، ومتجدد، ومتغير. وأوضح أنه من الخطأ الحديث عن فلسفة الليبرالية، وإنما هناك فلسلفات متعددة لليبرالية ينطوي بعضها على صدام شديد جدًا فيما بينها.
التطور الفكري للليبرالية:
وعن البداية الحقيقية لتبلور الفكر الليبرالي، أشار رئيس تحرير السياسة الدولية إلى أن النقلة الرئيسية كانت مع تحول الفن من المحاكاة إلى الإبداع، وأطلق على هذه المرحلة "الليبرالية الكلاسيكية"، معتبرًا أن القرن الـ 18 كان بمنزلة "درة تاج" الليبرالية لما شهده من إبداعات غير مسبوقة بنيت على أن العقل الذي تم تعطيله عبر التاريخ قادر على اختراق الآفاق، وتغيير وجه الحياة على الأرض بالفكر، والعلم، والفن.
وأضاف المفكر السياسي أن هذه المرحلة وضعت فيها الأرضية الأساسية للأفكار المرتبطة بالحرية والفردية. فالحرية تعني أن لكل فرد مجالا خاصا لا ينبغي لأحد التدخل فيه، لافتًا إلى أن البدايات الأولى للحرية كانت بمنزلة إشراقات في التاريخ مثل الحضارات الرومانية، والإغريقية، والإسلامية، لكن لم يكن بها تراكم. ونظرًا للمساحة الهائلة من الأفكار، والفلسفات، والرؤى، يرى وحيد عبد المجيد أنه لا بد لمن يريد أن يبلور التطور الفكري لليبرالية من التوقف عند أمور مهمة، هي:
أولًا- تطور مفهوم الفردية: فعندما بدأ التفكير في الحرية، حدث إفراط في النزعة الفردية، حتى تطور المفهوم تدريجيًا ليصبح ذا بعد اجتماعي أكثر تحديدًا.
ثانيًا- مفهوما السوق والعقد الاجتماعي: فتاريخ الليبرالية يعتمد على هذين المفهومين، بحسبانهما الركيزتين الأساسيتين للفكر الليبرالي، وينبثق منهما روافد مختلفة في إطار الاجتهادات والتفسيرات لهذين المفهومين.
ثالثًا- الليبرالية الاجتماعية: فالاعتقاد السائد بأن الليبرالية نظام يقوم على أساس سوق مفتوحة غير محدودة اعتقاد بعيد تمامًا عن الحقيقة. فمفهوم السوق طرح في بداية الليبرالية مقترنًا بزمانه، وربما بمكانه أيضًا، فهو بداية قصيرة في تاريخ الليبرالية ارتبط بمرحلة الثورة الصناعية الأولى التي لم تنتشر آنذاك في معظم دول أوروبا، وكانت بريطانيا سابقة في هذا المجال، واحتاج التطور في ذلك الوقت إلى قوة دافعة من خلال فتح الأبواب أمام هذا التطور.
الصراع داخل الفكر الليبرالي:
وأشار رئيس تحرير السياسة الدولية إلى أنه مع مرور الوقت، بدأت تظهر مشاكل مترتبة على نظام السوق، وهو ما دفع المفكرين، بداية من "جون ستيوارت ميل"، إلى الاهتمام بالبعد الاجتماعي في الليبرالية. ومن هنا، ظهر مفهوم العدالة الاجتماعية ليتجاوز ما طرحته الاشتراكية في إطار ليبرالي. وفي سبعينيات القرن الماضي، حدثت ردة فعل معاكسة تصدت لهذا التطور في الفكر الليبرالي، أطلق عليها الليبرالية الجديدة، وحدث صراع فكري رهيب بين التيارين. حيث بدأت مجموعة من الباحثين والأكاديميين يشعرون بالقلق من التطورات الاجتماعية لليبرالية، وذهبوا يعبرون عن مصالح الشرائح الاجتماعية العليا التي رأت في الليبرالية تهديدًا لها، فظهر تيار يقاوم التطور، ويريد وضع حدود له.
وطرحت الليبرالية الجديدة مفهوم "الاستحقاق"، أي أنه لا يصح أن يحصل إنسان إلا على ما يستحقه، وأن الناس مختلفون في قدراتهم، ومستوى ذكائهم، وأن هذا الاختلاف ليس بيد أحد، ولا يجوز لصانع القرار تجاوز هذه الاختلافات الطبيعية ين البشر. وترتب على ذلك زيادة معدلات التفاوت الاجتماعي بمعدلات غير مسبوقة، منذ بداية العصر الحديث، وبدت الصورة مخيفة، وظهرت ردود فكرية عنيفة.
ويرى عبد المجيد أن الليبرالية الجديدة مثلت خروجًا عن إطار الليبرالية، لأنها تعود في أصولها الفلسفية إلى الفكر المحافظ الذي يخشى التغيير، أو ما يأتي به المستقبل من مجهول. لكن هذه الأفكار لم تستطع الصمود أمام الفكر الليبرالي الذي يؤمن بأن المستقبل يأتي دائمًا بالجديد والأفضل، خاصة أن هذه النزعة المحافظة لم تستطع أن تطور مناهج علمية، بعكس الليبرالية التي تم المزج فيها بين العلم الاجتماعي والتجريبي.
الليبرالية والعولمة:
وحول العلاقة بين الليبرالية والعولمة، أشار عبد المجيد إلى أن الليبرالية هي بمنزلة أفكار مفتوحة للجميع، والعولمة هي تطور لهذا الواقع. وأوضح أن جزءًا من أهداف الليبرالية الجديدة هو التعبير عن مصالح الشركات متعددة الجنسيات، وكان من الطبيعي أن تدفع في هذا الاتجاه نحو العولمة لإعطاء مصالحها مجالًا أكبر للتوسع. وأكد أن الظاهرة الاستعمارية كانت بداية عولمة الاقتصاد، فهناك تطور اقتصادي حقق فائضًا في الإنتاج، ويبحث عن التسويق. ومن هنا، جاءت فكرة الاستعمار، وهو ما وصفه عبد المجيد بخيانة الليبرالية لنفسها، نظرًا لاتخاذ بعض مفكريها موقف المؤيد للظاهرة الاستعمارية، في حين أن قليلا منهم رفضوا هذه الظاهرة. وبالتالي، فالعولمة لها سياقها التاريخي المرتبط بالتطور الاقتصادي، وبظهور الليبرالية الجديدة التي دفعت في هذا الاتجاه بشكل غير مسبوق.
أزمة الليبرالية في العالم العربي:
أكد مؤلف الكتاب أن الأزمة في العالم العربي ليست في الليبرالية، وإنما في الأفكار الحديثة، لأن معظم هذه الأفكار ظلت نخبوية لم تنفذ إلى أعماق المجتمع لصعوبتها، مقارنة بالأفكار الأصولية. كما أنه لم تتوافر البيئة اللازمة لانتشارها، والمتمثلة في التعليم الجيد، ومناخ الحوار الصحي.
ولفت المؤلف إلى أنه في أواخر القرن الـ 18 ، كان قد بدأ اتصال محدود في مصر بالعالم والغرب، وقت رفاعة الطهطاوي، حيث تم التعرف على ما يحدث في الغرب في حدود ضيقة، وعلى أنها أفكار غربية، دون إدراك وجود نسق فكري مفتوح بعكس الماركسية التي تم التعامل معها، ولم يستخدم مصطلح الليبرالية إلا نهاية القرن الـ 19 مع بداية الترجمات.
وأشار إلى وجود عدة إشكاليات في تطبيق الليبرالية في العالم العربي، أبرزها: اقتصار التعامل مع الليبرالية على الإطار السياسي، ولم يتم التعامل مع النسق الفكري إلا من جانب النخبة، كما لم تكن هناك قوة دافعة لليبرالية في مصر والعالم العربي، على عكس ما حدث في الغرب، وحدث تبعثر شديد لمن يقتنعون بهذه الأفكار، حتى إن أغلب الأحزاب التي ادعت أنها تتبع الفكر الليبرالي لم يكن لها أي علاقة بالليبرالية. ومن ثم، فقد حدث "اختزالان" لليبرالية في المجتمعات العربية، وهما اختزال إيجابي لها في الديمقراطية، واختزال سلبي لها في العلمانية.
واستكمل قائلًا إن ثورة يوليو 1952 أدت إلى توقف التطور في الأفكار، وكانت جمعية "النداء الجديد" بمنزلة أول كيان في مصر يؤسس على أنه كيان ليبرالي، وأصدر مطبوعات تروج للأفكار الليبرالية. ونجح هذا الجهد في إعادة طرح الأفكار الليبرالية بشكل أزال جانبا من التشويه الذي حدث نتيجة الاختزال.
وفي ختام كلمته، شخّص عبد المجيد أزمة الليبرالية في مصر بأن هناك الكثير من الأحزاب التي تدعي الليبرالية، لكنها في الحقيقة ليس لديها معرفة، سواء مطلقة أو نسبية بها، معتقدًا أن الطريق الآن مفتوح أمام التطور الفكري، على أمل ألا تحدث انقطاعات أخرى، وأن يتحسن التعليم تدريجيًا، مع تنشيط حالة الحوار الفكري في المجتمع الذي أصبح سطحيًا في الفترة الأخيرة، وتحول إلى مهاترات، ومزايدات، ومعارك تفتقر إلى المعنى والمحتوى، موضحًا أنه كلما ارتقى الحوار الفكري، ارتقى الحوار السياسي.