ظل العراق، والنظام البعثي الحاكم فيها، يؤرق صانع القرار السياسي الأمريكي على مدى عقدين من الزمان، ورغم سقوط النظام البعثي، وتحقق ما يُسمى بتحرر العراق فإن الولايات المتحدة ظلت المسؤول الأول والوحيد أمام العالم - من منظور أخلاقي- لإعادة الأمن والاستقرار للعراق والشعب العراقي، ورغم الوعود المتكررة بعودة الأمن تدريجياً إلى العراق فإن الأمن تبخر، فلم يُعد هناك أمن ولا أمان . فبعدما ظن البعض أن الأمن سيعود بعد القضاء على ما يُسمى بتنظيم القاعدة في العراق، ظهر تنظيم "داعش" ما فرض على الإدارة الأمريكية التفكير الجدي في العودة لمستنقع العراق مرة أخرى، فلم تكن الولايات المتحدة راغبة في العودة إلى العراق عسكرياً، إذ سعت إدارة الرئيس باراك أوباما إلى محو آثار تلك الحقبة العنيفة في السياسة الخارجية عبر الانسحاب بشكل كامل من العراق بنهاية عام ،2011 وترك أمن هذا البلد واستقراره بيد الحكومة العراقية في بغداد .
لكن انفجار الأزمة السورية وتحوّل الثورة إلى عمل دموي مسلح من خلال المنظمات الإرهابية، أدخل العراق، رغماً عنه، في خضم تلك الأزمة . فقد بدأ المسلحون يتدفقون من العراق إلى سوريا وبالعكس، وأدى انهيار سلطة الدولة السورية في المناطق الشرقية المتاخمة للعراق، إلى ظهور كيان مسلح ضخم عماده العشائر السورية الناقمة التي لها امتدادات داخل العراق خاصة في مناطق الأنبار والموصل .
ولأن العراق كان قد فقد مناعته منذ العدوان الأمريكي عليه عام ،2003 وأصبح ساحة للصراعات الطائفية؛ فقد ارتفع الصوت الطائفي فيه أكثر، وجمعت المصالح بين العشائر العربية - الغاضبة من سياسات حكومة بغداد الطائفية- وتنظيم "داعش" فبدا كأنه تحالف مع تنظيم "داعش" الإرهابي الذي كان ينشط في غرب العراق، وفي مناطق واسعة من سوريا . وتم تمهيد الطريق له لاحتلال ثلاث محافظات عراقية هي الموصل والأنبار وصلاح الدين وأجزاء من ديالى في 10 يوليو/تموز الماضي . وكان ذلك خرقاً استراتيجياً - مُتعمداً- أحرزه تنظيم يعلن العداء للغرب وللحضارة الإنسانية برمتها . ما استدعى الرد مباشرة من الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها معنية بالشأن العراقي . فقد أكد المتحدث باسم البيت الأبيض، أن احتلال تنظيم "داعش" لأجزاء من شمال وغرب العراق، يشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي الأمريكي، ولأمن واستقرار الشرق الأوسط برمته .
وتحركت الإدارة الأمريكية على الفور للتشاور مع الحلفاء والأصدقاء لبحث سبل التدخل العسكري لإيقاف "داعش"، إن لم يكن بالإمكان تحطيمه بالكامل . وكانت العقدة الأساسية هي كيفية محاربة "داعش" في العراق من دون سوريا، خاصة أنه يسيطر على مناطق واسعة فيها، ذلك أن الموقف الذي اتخذته دول الغرب من النظام السوري، منذ بداية الأزمة، كان يهدف إلى إسقاطه . لكن التناقضات الدولية واتساع الهوة بين روسيا والصين من جهة والدول الغربية من جهة أخرى، شكل مظلة حماية لهذا النظام الذي استطاع أن يلعب على تلك المتناقضات، وأن يكبح جماح الهجوم الغربي الذي كان سيتم كما حدث في ليبيا . ولذلك لم يكن بوسع الدول الغربية تغيير سياستها تجاه سوريا بسهولة، رغم اعترافها بوجود إرهاب على الأرض السورية يتمثل ب"داعش"، و"جبهة النصرة" و"أحرار الشام"، وسواها من التنظيمات التي لا تخفي مشاريعها الإرهابية في المنطقة والعالم . بيد أن ظهور "داعش" كقوة إرهابية كبيرة في المنطقة وخوف الغرب ودول الإقليم منه، دفع الدول الغربية إلى السير في محاربة هذا التنظيم في اتجاهين: الأول: عسكري عبر إنشاء تحالف من الدول الحليفة والمتضررة منه . والثاني: البحث عن تسوية للأزمة السورية التي يشكل استمرارها مصدراً لنمو الإرهاب واتساعه . وقد تجسد التحالف العسكري عبر الضربات الجوية ضد مواقع "داعش" و"النصرة" و"أحرار الشام" في العراق وسوريا التي نفذتها مقاتلات أمريكية وأخرى تنتمي لبعض الدول العربية، وكانت الولايات المتحدة قررت إرسال مستشارين عسكريين إلى العراق قبل بضعة أشهر لدراسة الواقع عن قرب وبحث طرق الرد على "داعش"، ومن ثم قامت وزارة الدفاع الأمريكية بإرسال أول قوة عسكرية مؤلفة من خمسين جندياً، لنشرها في محافظة الأنبار غرب العراق، كمقدمة لدخول عدد أكبر من الجنود من أجل دعم الجيش العراقي، والحشد الشعبي في مواجهة جماعة "داعش" .
وأعلن الرئيس باراك أوباما بعد لقائه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يوم الأربعاء 15-4-2015 في البيت الأبيض تحقيق تقدم كبير في التصدي ل"داعش"، لكنه أضاف أن مواجهة التنظيم عملية طويلة الأمد . وبشكل يومي يقوم الطيران الحربي بتوجيه ضربات ضد مواقع التنظيمات المتطرفة سواء في العراق أو سوريا، وفي الوقت نفسه، يتابع الجيش العراقي عمله على الأرض، ويقدم الإرشادات والإحداثيات للقوة الجوية، أما في سوريا، فقد حدثت تفاهمات، بشكل غير مباشر، بين الولايات المتحدة والنظام السوري على ضرورة عدم التعرض للطائرات التابعة للتحالف التي تشن هجمات على الأرض السورية . وسارع هذا النظام إلى الترحيب بذلك لأنه يعتبر نفسه متضرراً من "داعش" . وقد فتحت الحرب ضد "داعش" كوة في جدار الخلافات بين الدول المتصارعة على سوريا، وأصبح المزاج العالمي العام يميل إلى دفع السوريين لإجراء حوار داخلي يكون مقدمة لإنهاء الخلاف السياسي في سوريا وإعادة الأمن والاستقرار إليها، وبعد ذلك يتحد الغرب والدول العربية الأخرى للقضاء على "داعش" وسواه من التنظيمات الإرهابية وتخليص منطقة الشرق الأوسط من شرورها .
-----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 19/4/2015.