كانت "السياسة الدولية" هي المجلة العربية الدورية الأولي الموجهة إلي القارئ العام في مجال كان الاهتمام به مقصورا علي نخبة ضيقة من دارسي العلوم السياسية والدبلوماسيين، وبعض المشتغلين بالعمل العام. وهذه نقلة نوعية حققتها المجلة، حيث جعلت قضايا السياسة الدولية جزءا من النقاش العام الذي تجاوز الأوساط الأكاديمية، والدوائر المتخصصة، ومنتديات المثقفين، وانتشر في المجتمع.
وهذا إنجاز في حد ذاته، لأن الكثير من المجلات والمطبوعات التي صدرت في ذلك الوقت، وبعده، توقفت أو أغلقت. وعندما تبقي مجلة متخصصة لمدة نصف قرن، فهذا يعني أنها قادرة علي الاستمرار، فضلا عن أن الحاجة إليها لا تزال قائمة، بل ازدادت عما كانت عليه قبل نصف قرن.
لقد أردنا إيجاد منبر دوري مستمر لمتابعة ما يحدث في العالم، ودراسته، وتحليله، وإتاحة المعرفة به لكل من يرغب في الإلمام بها. وبدأنا هذا العمل في وقت كان فيه العالم يتهيأ لتحولات كبري تحمل في طياتها أعمق تغيير في تاريخه علي مر العصور.
فقد أخذ العالم العربي يشهد، بُعَيد إصدار "السياسة الدولية"، تغييرا لا سابق له في تاريخه من حيث عمقه، وشموله، والمدي الزمني الذي حدث فيه، ولا يزال. واكبت "السياسة الدولية" هذا التغير الذي سيزداد في السنوات والعقود القادمة نتيجة العولمة وتداعياتها التي قربت البعيد، وجعلت العالم الشاسع المترامي الأطراف أشبه بقرية صغيرة، وبفعل القفزة التكنولوجية الهائلة التي صارت تعرف بـ "الثورة الرقمية"، وتجلياتها المتجددة واللانهائية.
غيرت العولمة أنماط العلاقات الدولية، والقواعد المنظمة لها، ووسعت نطاق تفاعلاتها. فلم تعد الدولة هي الفاعل الوحيد فيها، حيث ازداد حضور قوي أخري Nonstate Actors، مثل الشركات الكبري العملاقة المتعددة الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية، أو المجتمع المدني. وأصبح الارتباط بين العلاقات السياسية والاقتصادية أقوي من أي وقت مضي في التاريخ.
كما غيرت الثورة الرقمية أنماط الحياة الإنسانية في أعماقها، وأتاحت فرصا لا محدودة للتواصل بين الناس في أنحاء العالم، وفتحت أبوابا لتغيير جذري سيزداد مستقبلا في نظم التعليم، والاقتصاد، والإدارة، والإعلام، والفن، كما في المنظومات الاجتماعية، حيث أصبح النجاح والتقدم مرتبطين بإبداعات وابتكار أفكار جديدة، والقدرة علي تنفيذها. فمن أهم معالم التحولات الكبري التي تغير العالم الدمج المتزايد لتكنولوجيا الثورة الرقمية في مجالات الحياة كافة، علي نحو يجعل العالم الراهن مختلفا عما كان عليه قبل عقود قليلة.
ولذلك، تزداد في هذا العالم المتغير أهمية العقل الإنساني في إنتاج الثروة، إلي جانب الموارد ورأس المال، في ظل تطور متسارع يجعل المعرفة هي المصدر الرئيسي للازدهار الاقتصادي.فالتغيير المترتب علي الطفرة التكنولوجية المقترنة بالعولمة هو الأكبر والأسرع في تاريخ العالم الذي ظل في حالة ركود وسكون علي مدي قرون طويلة، منذ أول تحول كبير فيه، عندما عرف الإنسان الزراعة، وإلي أن دخل عصر الصناعة.
غير أن التغيير الذي تحدثه الثورة الرقمية ربما يفوق ما ترتب علي الثورة الصناعية، رغم أنهما من منبع واحد يقوم علي فكرة أن أفضل الاختراعات هي التي لا تكتمل أبدا.
ولنأخذ مثلا اختراع أول سيارة تعمل بوقود بترولي (أحفوري)، واختراع أول موقع علي شبكة معلوماتية.
لم تكن السيارة مجرد جسم يتحرك علي عجلات، بل كانت رافعة لصناعة أحدثت تغييرا كبيرا في حياة الإنسان، والمجتمع، والاقتصاد، وهكذا الحال بالنسبة لاختراع الإنترنت. فقد ثبت أن أهمية أي اختراع يرتبط بالآفاق التي يفتحها. فكلما كانت هذه الآفاق أوسع، صار الاختراع أكثر أهمية. وبمقدار ما تكون الآفاق التي يفتحها هذا الاختراع شاملة لمجالات مختلفة ومتنوعة، يزداد تأثيره.
وهكذا، غير هذان التحولان الكبيران (الثورتان الصناعية والرقمية) صورة العالم، وسيواصلان تغييرها إلي جانب تحول ثالث يقع في مجال الجغرافيا السياسية التي لم تفقد أهميتها، بل تغيرت معادلاتها، وهو انتقال مركز الثقل في التفاعلات العالمية تدريجيا من البحر المتوسط إلي شرق آسيا.
وفي ظل هذه التحولات الكبري، أصبح علي مصر أن تشق طريقا جديدا، وسط أمواج متلاطمة في منطقتها، علي أساس من الوعي بعمق التغيير الذي يحدث في عالم تحتاج إلي دعم حضورها فيه، وفي إطار استيعاب دروس هذا التغيير، وتبني رؤية جديدة تماما للبحث العلمي، ومراجعة الميل الغالب في سياستها الخارجية نحو الشمال، وإعطاء أهمية كبري للجنوب، وتعزيز التعاون مع دوله.
(*) اخر مقال نشره د.بطرس بطرس غالي في مجلة السياسة الدولية بمناسبة ذكراها الـ50 ، عدد إبريل 2015