كيف يفكر العالم

أوروبا والمهاجرون.. تقييم سياسات التعددية الثقافية والاستيعاب

داخلي
طباعة

9 مارس 2015
عرض: هايدى عصمت كارس، مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

مع تجدد أحداث العنف في أوروبا، كالذي شهدته فرنسا في يناير الماضي من إطلاق متشددين إسلاميين النار على مكتب جريدة تشارلي إبدو الساخرة، والهجوم على متجر يهودى، ثار العديد من التساؤلات حول ما تواجهه المجتمعات الأوروبية من مشكلات، وكيفية التعامل معها، ومن أهمها الجدل حول "التعددية الثقافية" Multiculturalism، التي تمثل إحدى السياسات الضرورية لإدارة التنوع داخل المجتمعات.

لثلاثة عقود مضت، بدت التعددية الثقافية الحل لمشاكل أوروبا الاجتماعية، لكن الآن، بدأ ينظر إليها البعض كسبب فى هذه المشاكل، حيث أدت إلى نجاح أحزاب اليمين المتطرفة، والتيارات الشعبوية. وفي أكثر الحالات تطرفاً، تم إشعال أحداث عنف كحادث جزيرة أوتويا في النرويج عام 2011.

في هذا الإطار، يثور الجدل حول التعددية الثقافية بين مؤيد ومعارض، يرى الأول أن المشكلة ليست في التعدد، وإنما في العنصرية ضد الأقليات، بينما يرى الأخير أن السماح لموجات من الهجرة المتتالية بدون تكامل أدى إلى تآكل التجانس المجتمعي، وتقويض الهوية القومية، والتقليل من الثقة العامة. هناك وجه آخر للجدل يتمثل فى كيفية إدارة التنوع في المجتمع، إما بتبني سياسات التعددية الثقافية، أو الاستيعاب، بحسبانهما طرفي النقيض .

في هذا الإطار، تأتى مقالة كينين مالك في مجلة الشئون الخارجية  Foreign affairs  في عدد مارس/ أبريل 2015، المعنونة "فشل التعددية الثقافية: الجماعة في مواجهة المجتمع في أوروبا"، لتطرح تقييماً للتعددية الثقافية، بحسبانها وصفاً للتنوع في المجتمعات الأوروبية من ناحية، وكمجموعة من السياسات للتعامل مع هذا التنوع من ناحية أخرى. وتختتم المقالة طرحها بتقديم طريق ثالث للتعامل مع التنوع المجتمعي.

أسطورة التنوع وأسبابها

استهل مالك مقالته بالاختلاف مع القول إن أوروبا اليوم أكثر تعدداً من أي فترات سابقة. فتاريخياً، نظرت المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر لنفسها بحسبانها متعددة، حيث تحوى أعراقا مختلفة، كفقراء الريف، والطبقة العاملة، بينهم وبين أصحاب الأعمال والملاك اختلافات اجتماعية وثقافية كبيرة، تبدو أكبر بكثير من الاختلافات الموجودة في المجتمعات الأوروبية في العصر الحديث.

وبغض النظر عن الجدل حول ما إذا كانت أوروبا المعاصرة أكثر تنوعاً مما كانت عليه في القرن التاسع عشر، فإن الأهم أنه لا يوجد اختلاف حول إدراك الأوروبيين أن أوروبا المعاصرة أكثر تنوعاً. يُرجع مالك ذلك إلى التغيرات التي طرأت على تعريف الفوارق الاجتماعية. منذ قرن ونصف قرن مضى، سادت "الطبقة" كأساس لفهم التفاعلات الاجتماعية، فكانت الاختلافات العرقية تشير إلى الاختلاف في الطبقة والمستوى الاجتماعي.

لكن على مدى العقود القليلة الماضية، تراجعت أهمية الطبقة في أوروبا، وأصبحت الثقافة أساسا لإدراك الفوارق الاجتماعية. وقد ارتبط ذلك بتراجع الانقسامات الأيديولوجية بين اليمين واليسار، في ظل توسع السوق في كافة مجالات الحياة، مما أفسح الطريق أمام سياسة الهوية (Identity politics) فتراجعت التوجهات السياسية كأساس لتعريف الأوروبيين لانتمائهم، بينما تزايد النظر إلى الانتماء في ضوء الإثنية، أو الثقافة، أو العقيدة.

تباين المسارات الأوروبية تجاه التعددية الثقافية

تناول مالك المسارات المختلفة التي اتبعتها الدول الأوروبية في التعامل مع التعددية الثقافية ما بين تبنى سياسة التعددية الثقافية كالمملكة المتحدة وألمانيا، أو رفضها، وتبنى سياسة الاستيعاب كفرنسا. إلا أنه وصل من تحليله إلى تشابه النتيجة، حيث يمثل الانقسام السمة الغالبة على هذه المجتمعات جميعها.

بداية، يعترض الكاتب على الاعتقاد السائد في السياسة الأوروبية بأن الحكومات تبنت سياسة التعددية الثقافية، نتيجة رغبة المهاجرين في تأكيد اختلافهم، فيوضح أن قضية الاستيعاب الثقافي أثارت اهتمام النخب السياسية، ولم يهتم المهاجرون بها إلا في وقت قريب. ويدلل على ذلك بأنه حتى أواخر الثمانينيات، لم يُعرف المهاجرون المسلمون في أوروبا انتماءهم، استناداً إلى العقيدة، أو إلى ما يسمى الآن بالمجتمعات المسلمة في أوروبا. وقد قدم مالك تحليلا لمسارات الدول الأوروبية المختلفة للتعامل مع التعددية الثقافية:

أولا- تبنى سياسة التعددية الثقافية في المملكة المتحدة وألمانيا:

عانى المهاجرون في المملكة المتحدة العنصرية، وعدم المساواة، لذا أنشأ الجيل الثاني من المهاجرين تنظيمات سياسية، كحركة الشباب الآسيوي، التى قامت بتنظيم إضرابات واعتصامات ضد التمييز، تصاعدت لتصل إلى أعمال شغب في أماكن متفرقة في أواخر السبعينيات، وأوائل الثمانينيات.

لمواجهة ذلك، اتبعت السلطات البريطانية سياسة إعطاء الأقليات نصيبا متساويا في العملية السياسية على المستوى القومي والمحلى، من خلال تحديد تنظيمات وقيادات لجماعات الأقليات تمثل مصالحهم. على سبيل المثال، في عام 1985، عقب الشغب الذى اجتاح مدينة برمنجهام، نتيجة البطالة، والفقر، وعنف الشرطة، قام مجلس المدينة بإنشاء عدة لجان تهدف كل منها  إلى الدفاع عن مصلحة جماعة محددة، سواء إثنية، أو دينية، أو ما شابه في مجلس المدينة من حيث احتياجاتها، وكيفية تخصيص الموارد، وتوزيع السلطة السياسية.

ويرى مالك أن هذه السياسة القائمة على تخصيص الموارد، بناء على حسابات إثنية، ودينية، وثقافية، أدت إلى ارتباط الأفراد أكثر بهوية معينة، والنظر إلى المجموعات الأخرى بحسبانها متنافسة على الموارد والقوة والنفوذ. بعبارة أخرى، دعمت هذه السياسة الانقسام بين الجماعات، مما أدى إلى اندلاع عنف بينها، كأعمال العنف التي اندلعت بين السود والآسيويين عام 2005.

وعن الحالة الألمانية، يشير مالك إلى أنه عقب الحرب العالمية الثانية، اعتمدت ألمانيا على العمالة الزائرة لسد النقص في العمالة، لكن تحول الكثير من هذه العمالة إلى الإقامة الدائمة، معظمهم من الأتراك. وتجنباً لمحاولة خلق ثقافة مشتركة، تبنى الساسة الألمان سياسة التعددية الثقافية للتعامل مع ما عرف بالمشكلة التركية. فمع بداية الثمانينيات، شجعت الحكومة الألمانية الأتراك على الحفاظ على ثقافتهم، ولغتهم، وأسلوب حياتهم بدلاً من إعطائهم حق المواطنة. فبالرغم من تعديلات قانون الجنسية عام 1999، لا يزال 800 ألف فقط من أصول تركية حاصلين على الجنسية الألمانية من أصل ثلاثة ملايين.

خلقت سياسة التعددية الثقافية التي تبنتها ألمانيا جماعات متوازية. فمن ناحية، ابتعدت الجماعات التركية عن التيار الرئيسي في المجتمع الألماني، وأصبحت أكثر تشددا دينياً عن الجيل الأول من المهاجرين، حيث وصل الأمر إلى عدم اكتراث الأتراك بتعلم اللغة الألمانية. من ناحية أخرى، دفعت هذه السياسة إلى نظر الألمان للثقافة التركية وللإسلام بمزيد من العداء، مما يَبرُز من خلال استطلاعات الرأي، ونشأة حركات ضد الهجرة والإسلام كحركة "الأوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب".

وعلى ذلك ، يرى الكاتب أن مشكلة سياسة التعددية الثقافية تكمن في مأسسة التنوع بوضع الأقليات في قوالب إثنية وثقافية، بفرض انتمائهم لها، وتمثيلهم من خلال تنظيمات خاصة، أو قادة، يقومون بالوساطة بين الدولة والأقليات. لكن دون الأخذ في الحسبان أن هذه الأقليات، كالجماعات المسلمة في أوروبا، على سبيل المثال، لا تمثل جماعة واحدة متجانسة، ومن ثم لا يمكن تمثيلها من خلال تنظيم واحد، أو مجموعة من القادة.

ثانيا- تبنى سياسة الاستيعاب في فرنسا:

على عكس المملكة المتحدة، وألمانيا، رفضت فرنسا سياسات التعددية الثقافية، وتبنت في المقابل سياسات الاستيعاب، بحسبانها طرف النقيض للتعددية الثقافية، حيث تؤكد فرنسا معاملة كل فرد فيها، بحسبانه مواطنا، وليس عضوا في مجموعة عرقية، أو إثنية، أو ثقافية معينة. بالرغم من ذلك، يصل مالك إلى أن فرنسا مقسمة اجتماعياً، كألمانيا والمملكة المتحدة، مفسراً ذلك من خلال تحليل وتقييم سياسة الاستيعاب التي تبنتها فرنسا.

وعلى الرغم من تسامح فرنسا مع الاختلافات الثقافية والدينية، في الوقت الذى لم تعبر فيه الأقليات عن هويتها، وفق معيار الثقافة، أو الدين، فقد واجه الجيل الأول من المهاجرين عنصرية وتمييزا ضده، مما دفع الجيل الثاني إلى تنظيم نفسه في تنظيمات علمانية في الأغلب لمحاربة التمييز، والبطالة، وعنف الشرطة، ونظم مظاهرات كانت في معظمها عنيفة كأحداث الشغب التي اندلعت في العديد من المدن الفرنسية في أواخر عام 2005. فتخلت فرنسا عن اقترابها السابق، وتبنت موقف أكثر تشدداً، وتعاملت مع هذه الأحداث كتعبير عن صعود خطر الإسلام في فرنسا بدل من كونها رد فعل للعنصرية.

من التحليل السابق، يرى مالك أنه بالرغم من رفض فرنسا سياسات التعددية الثقافية التي تبنتها المملكة المتحدة، فإنها في الممارسة، لم تنظر إلى المواطنين الفرنسيين القادمين من شمال إفريقيا بحسبانهم كاملي حقوق المواطنة، حيث تمت معاملتهم بنفس اقتراب التعددية الثقافية، بحسبانهم جماعة واحدة، بالرغم من الاختلافات بينهم، وبوصفهم "مهاجرين"، أو "مسلمين"، وكأنهم ليسوا جزءا من الأمة الفرنسية، بالإضافة إلى تجاهل السياسة الفرنسية العنصرية والتمييز اللذين يواجهانه.

استكمالاً لما سبق، يختلف الكاتب مع القول بتشتت الجيل الثاني من المهاجرين من شمال إفريقيا بين ثقافتين، فيرى- على العكس- أن هذا الجيل بدون ثقافة، حيث إنه معزول عن ثقافة الآباء، وعن المجتمع الفرنسي الأوسع، لذا يلجأ إلى الإسلاموية، أو يعبر عن غضبه بطريقة أكثر تطرفاً من خلال الجماعات الجهادية العنيفة. ففي الماضي، عبر المهاجرون من شمال إفريقيا، أو الطبقة العاملة البيضاء، عن سخطهم من خلال العمل السياسي المباشر، ولكن الآن تعبر كل المجموعات عن استيائها من خلال سياسة الهوية، كل بطريقته، إما من خلال إسلاموية متطرفة، أو حركات شعبوية عنصرية.

نحو بديل ثالث:

يقدم مالك في ختام مقالته رؤية جديدة تتعدى الجدل ما بين التعددية الثقافية، والاستيعاب، للتعامل مع مشكلة انقسام المجتمعات الأوروبية. ويرى أن ذلك يتطلب توضيح عدد من النقاط من بينها:

أولاً: أهمية التمييز بين التنوع في المجتمعات الأوروبية كخبرة معيشة، وبين التعددية الثقافية كعملية سياسية. فلابد من الترحيب بخبرة التنوع داخل المجتمعات التي نتجت عن الهجرات. ولكن في الوقت نفسه، من الضروري مقاومة محاولات مأسسة هذا التنوع التي تتم بالاعتراف الرسمي بالاختلافات الثقافية.

ثانياً: أهمية سياسة الاستيعاب، حيث يتم التعامل مع الجميع كمواطنين، ولكن دون تجاهل الوقوف في مواجهة التمييز ضد مجموعات معينة، مما يفقد المواطنة معناها.

ثالثا: أهمية التمييز بين الأفراد والقيم. فوفق أنصار التعددية الثقافية، يقوض التنوع الثقافي إمكانية وجود قيم مشتركة. وأيضاً، يرى أنصار سياسة الاستيعاب أن إمكانية وجود قيم مشتركة تتحقق فقط من خلال مجتمع أكثر تجانساً ثقافياً. فكل من الاتجاهين يتعامل مع جماعات الأقليات بحسبانها كلا متجانسا مرتبطا بثقافة، أو عقيدة، أو قيم معينة، بدلا من النظر إليهم كمكونات لديمقراطية حديثة.

ويصل مالك في ختام مقالته إلى طرح لكيفية التعامل مع الانقسام في المجتمعات الأوروبية يتمثل في:

أولاً: تجمع السياسة الأمثل بين اعتراف سياسة التعددية الثقافية بالتنوع دون مأسسة هذه الاختلافات، ومحاولة سياسة الاستيعاب في التعامل مع الجميع كمواطنين، لكن دون إنشاء هوية قومية بوصف جماعة معينة بحسبانها غريبة عن الأمة.

ثانيا: لا يتم التكامل الفعال من خلال سياسات الدولة، ولكن من خلال مجتمع مدني يُنشئ روابط بين الأفراد، ومؤسسات يتشارك الأفراد فيها مصالحهم الاجتماعية والسياسية.

طباعة

تعريف الكاتب

كينن مالك

كينن مالك

كاتب، ومحاضر مهتم بتاريخ وفلسفة الدين، ونظريات الطبيعة الإنسانية، والفلسفة السياسية، والعرقيات والهجرة، وله أربعة كتب، من بينها "من الفتوى إلى الجهاد: قضية رشدى وتراثها"(2009) ، ويكتب في الجارديان، والتايمز، وغيرهما.