يخضع سعر النفط كغيره من السلع إلى مبدأ العرض والطلب. وهذا بدوره يتحدد من منطلق توسّع دوائر الإنتاج العالمي وارتفاع معدلات الاستهلاك. فالبلدان الصناعية تحتاج بداهة إلى كميات من النفط، تفوق ما تحتاجه الدول الأقل تطوراً. والأمر ذاته يتعلق بالحجم السكاني. بالتالي، فإن ارتفاع سعر النفط أو انخفاضه ينعكس على معدلات النمو والاستهلاك وتكاليف الإنتاج. وارتفاع سعر النفط يعني ارتفاع تكاليف المعيشة، لكن هبوطه لا يؤدي بشكل دائم إلى انخفاضها. وهذا يتوقف على دور الدولة الاجتماعي والتنموي، ودور التجّار والمستثمرين في السياسات الاقتصادية، إضافة إلى شكل العلاقات الاقتصادية، ودرجة ارتباط السياسات الاقتصادية الجزئية والكلية بالأسواق العالمية.
كذلك، فإن تذبذب سعر النفط يترك آثاراً واضحة على حركة التبادل التجاري. كما أن ارتفاع سعر النفط يساهم في ارتفاع معدل التضخم النقدي في الدول النفطية. وتجاوزه يحتاج إلى إدخال الفائض النقدي في التنمية البشرية والاقتصادية. وإذا كان ذلك يجد له طريقاً للتنفيذ في الدول الصناعية، فإن السياسات المالية والنقدية في غالبية الدول النفطية، وبشكل خاص الخليجية، تفتقر إلى ذلك، وتجد في إيداع الفائض النقدي في بنوك الغرب وسيلتها الوحيدة، فتبقى نتيجة لذلك دولاً ذات نمط إنتاج ريعي مهدّدة بالتصدع والانهيار، نتيجة اعتمادها الكلي على ثروة ناضبة. وهذا ينعكس على تركيبة البنية الاجتماعية وأشكال العلاقات الاجتماعية.
في ما يخص ارتفاع تكاليف الإنتاج، فإنه يساهم في اتساع ظاهرة الركود وانخفاض معدلات الإنتاج. كذلك، فإنه ينعكس على مستوى التشغيل فترتفع معدلات البطالة وتنخفض القدرة الشرائية. وهذا يقود إلى اتساع ظاهرة الكساد التي تُعتبر إضافة إلى الركود من مكوّنات الركود التضخّمي. وهذا يعود بنا إلى أزمة الكساد الكبير والسياسات «الكينزية» التي أكدت على أن تجاوز الركود التضخمي يكمن في زيادة دور الدولة واعتماد سياسة التشغيل الكاملة. من جانب آخر، فإن المحافظة على معدلات الإنتاج النفطي في ظل استمرار هبوط سعره يدلل على إمكانية نشوء أزمة اقتصادية وسياسية في البلدان النفطية التي تفتقد إلى التنمية الاقتصادية والبشرية. لكنه من جانب آخر، يساعد الدول الصناعية على رفع معدلاتها الإنتاجية، ويُكسبها قدرة تنافسية أكبر. وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة في العرض. وإذا تزامن ذلك مع تراجع الطلب العالمي، فإنه ينبئ بإمكانية اتساع ظاهرة الركود والكساد.
إن انخفاض سعر النفط إلى أقل من التكلفة الاستخراجية في بعض الدول المنتجة للنفط، يفرض عليها تخفيض إنتاجها واستيراد النفط من دول تنخفض فيها تكاليف الإنتاج عن السعر الحالي. وهذا ينطبق على العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، ودول الخليج، وبشكل خاص السعودية من جهة أخرى. ولأن الصين تُعتبر من أكبر الدول المستهلكة للنفط، فهي من أكثر المستفيدين من هبوط سعره. ويكمن السبب في كونها تحافظ على زيادة معدلات التنمية الاقتصادية والبشرية. وهذا يعني أن انخفاض سعر النفط سينعكس بأشكال إيجابية على ارتفاع المعدلات الإنتاجية والتنموية، ويساهم أيضاً في تخفيض تكاليف الإنتاج، ما يعني أن إنتاجها السلعي سيتمتع بمزيد من السمات التنافسية. هذه العوامل وغيرها تعزز مواقف الصين السياسية والاقتصادية أمام الولايات المتحدة، وتساهم في مساندة الموقف الروسي والإيراني. فالصراع الأميركي والروسي على مناطق النفوذ وفيها، ينتقل في اللحظة الراهنة إلى أسواق النفط وحقول الإنتاج. وهذا هو سبب تمسّك العربية السعودية بإنتاجها البالغ 6,9 مليون برميل يومياً، وذلك بذريعة المحافظة على حصتها في الأسواق العالمية، وأن العرض والطلب يحدّد سعر النفط. علماً أن الهدف الحقيقي من وراء ذلك، يكمن في زيادة الضغط الاقتصادي على روسيا وإيران لتغيير مواقفهما السياسية في مناطق الصراع المعولمة.
لكن في حال استمرار تراجع سعر النفط أو استقراره على السعر الحالي، فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث انهيارات اقتصادية داخل إيران وروسيا، وهذا سينعكس على مواقفهما السياسية في مناطق الصراع. ومن الممكن أن يفرض عليهما تغيير أماكن الاشتباك وآلياته. ومن الواضح أن التحالف الأميركي يلجأ إلى عزل روسيا وإيران من خلال شلّ قدراتهما الاقتصادية. وهذا يستدعي من القيادة الروسية الإقلاع عن الاعتماد المفرِط على قطاع الطاقة الذي تشكل عائداته 52 في المئة من الميزانية العامة، ونحو ربع الناتج القومي، فضلاً عن العمل على إعادة هيكلة الاقتصاد الصناعي وزيادة قدراته الإنتاجية ورفع كفاءته التنافسية، وهذا صعب جداً في ظل الاعتماد الكبير على العوائد النفطية التي تقدّر بـ 10 مليون برميل يومياً. وقد كان ذلك من الأسباب التي دعت يفغيني بريماكوف وآخرين لانتقاد أداء السلطة والطلب منها الانتقال من بيع الغاز والمواد النفطية الخام إلى الاهتمام بالقطاعات الصناعية، واتخاذ إجراءات لتنويع الاقتصاد والاعتماد على الاقتصاد الحرّ والانفتاح على الغرب. وقد كان في كلام بريماكوف تحذير المبطن من خطورة نتائج المركزية الشديدة للسلطة.
لقد اعتمدت القيادة الروسية مؤخراً مفهوم أن «روسيا ـ دولة الطاقة العظمى». وهذا المفهوم بدأ يترنّح في ظل انخفاض سعر النفط والعقوبات الاقتصادية وتراجع سعر الروبل إلى ثلثي قيمته الشرائية خلال ستة أشهر، وهروب رؤوس الأموال، إضافة إلى تراجع واردات روسيا النفطية بنسبة 8,6 في المئة. وخسرت خزانتها قرابة 120 مليار دولار. كذلك فإن رفع البنك المركزي سعر الفائدة إلى 17 في المئة أدى إلى تدني الاستثمارات الأجنبية والمحلية، وتراجع الإقراض، وارتفاع معدل الانكماش إلى 3 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2015. كما أن معدل التضخم يتراوح بين 15 ــ 17 في المئة. وقد تم تقليص ميزانية العام الجاري بنسبة 10 في المئة، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تقليص الإنفاق على البرامج الاجتماعية (الصحة والتعليم) والتنمية البشرية.
أما إيران فإن طاقتها التصديرية تُقدر بـ 5,2 مليون برميل يومياً. وانخفاض سعر النفط بنسبة 40 إلى 45 في المئة يعني أن خسارتها السنوية تتجاوز عتبة 240 مليار دولار. وهذا سيزيد من الضغط على المفاوض الإيراني في المفاوضات النووية. كذلك، فإن امتناع إيران عن تصدير النفط سيصيبها بخسارة مالية كبيرة. وكلا الأمرين سيكون لهما تأثير سياسي كبير في الساحة السورية.
من المؤكد أن تداعيات انخفاض سعر النفط ستنتقل إلى دولنا ومجتمعاتنا من خلال حركة الأسعار ومعدلات النمو وحركة التبادل التجاري وحجم استيراد التقانة والمواد الأولية التي تدخل في الصناعة. أما في سوريا، فإن المفارقة تكمن في أن انخفاض سعر النفط، لم يرافقه انخفاض في أسعار السلع الصناعية والزراعية المحلية والمستوردة. وقد استمر ارتفاع الأسعار في سياق يتناقض مع ميل تكاليف الإنتاج السلعي إلى الانخفاض. وهذا يتعلق بدور مافيات السوق السوداء وتجار الأزمة. وهؤلاء يساهمون في تعميق الأزمة الاقتصادية والسياسية.
إن الحرب تعبير عن اقتصاد مكثف، وهذا يستدعي من الدول المتضررة من انخفاض سعر النفط بشكل خاص روسيا وإيران، ودول «البريكس» بشكل عام، أن تشتغل على تحويل الضغوط الغربية إلى فرصة لتعميق التعاون والتبادل المشترك للانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، يكون أقل اختلالاً وظلماً، وأكثر توازناً وعدالة، ويحد من النزعة الأميركية الأحادية.
-------------------------
* نقلا عن السفير، الثلاثاء، 3/3/2015.